مما ذكرته في سنابي الأخير المعنون بالفردية والجماعية الحلقة الثانية، أنني اجتهد اجتهادا جديدا في فهم الإمام الشافعي ومن بعده الإمام أحمد في استدلالهما لحجية الإجماع واسأل الله أن أكون قد وفقت لهذا الفهم وإليك بيانه.

من المعلوم أن كتب الأصول حين تتكلم عن الإجماع يذكرون دليله من القرآن قوله عز وجل: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا)، ويذكر البعض أن أول من استخدم هذا الدليل هو الشافعي نفسه بعدما طلب منه البعض دليلا على الإجماع من كتاب الله، فمكث ثلاثة أيام (وقيل أربعين يوما) يتدبر القرآن ثم جاء بهذا الدليل!

وقد استغربت هذه القصة استغرابا شديدا، فهل الشافعي وهو من هو في سرعة البديهة والذكاء يسأل عن دليل الإجماع فلا يقدر على الجواب بسرعة؟ وكأن الإجماع قضية فرعية لا بدهية من بدهيات مذهب الشافعي وغيره؟!

فرجعت للرسالة وقرأتها مرارا فما وجدت فيها أي ذكر لهذا الدليل على الإجماع، وإنما له استدلالٌ ذكي يليق بمثله رضي الله عنه، ذلك أنه يفهم أن حفظ الذكر من لدنه سبحانه قضية محل اتفاق بين الجميع، فإن اجتماع الأمة كلها لن يكون إلا حفظا للذكر ولذلك فلن تجتمع على ضلالة ولمَا أوصى رسول الله ﷺ باتباع الجماعة، فلأن الله تعالى وعد بحفظ الدين (الذكر) فهذا الحفظ لن يكون إلا بيد الأمة كلها فلن تغيب عنها آية ولا سنة ولن تخطئ كلها باجتهاد وإلا لضاع الدين.

فإذا علمت ذلك وعلمت معه أن الإمام الشافعي كان يقول عن سورة العصر: (لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم)، لتيقنت أن الشافعي كان يفهم معنى التواصي بالحق (وهو الشورى بعينها)، وفيه تكمن حجية الإجماع القطعي لا الاجماع السكوتي أو النسبي الذي ينفيه هو وتلميذه ابن حَنْبَل وكانوا يقولون نيابةً عن (أجمعت الأمة)، ما يدريك لعل الناس اختلفوا؟! أو لا يعلم له مخالف ونحو ذلك، وذلك حتى لا يصادروا حق بل واجب المجتهد والأمة في الاجتهاد والتفكير الحر الذي أمر به كتاب الله، وبذلك يكون الإجماع عندهم هو ما أثبته ابن حزم وغيره من المحققين وهو الإجماع القطعي والذي يكون بمنزلة البديهي في الشريعة.

يقول الإمام ابن حزم: (وأما الإجماع الذي تقوم به الحجة في الشريعة، فهو ما تيقن أن جميع الصحابة رضي الله عنهم قالوه ودانوا به عن نبيهم ﷺ، ليس الإجماع في الدين شيئا غير هذا، وأما ما لم يكن إجماعا في الشريعة، فهو ما اختلفوا فيه باجتهاداتهم أو سكت بعضهم، ولو واحد منهم عن الكلام فيه).

المحلى ٨٧ أو الرسائل ٤/ ٤٠٩

ولكني تساءلت لماذا أصر الأصوليون على التمسك بهذا الدليل القرآني على الإجماع دون ذكر لسورة العصر أو آيات الشورى وَمِمَّا أفضى إلى جعل الإجماع سلاحا جامدا ميتا افتراضيا لا حراك فيه لرد كل تفكيرٍ واجتهاد؟! بدلا من أن يكون آداةً لتطوير الفقه وإحيائه بالشورى وتداول الأفكار؟! فوصلت إلى أن هذا الدليل عبارة عن منطق أرسطي جدلي يفحم الخصم ويسكته، فهو عبارة عن مقدمتين ونتيجة، ومعلوم أن الشافعي وأئمة المذاهب كانوا على عداوة مع المناطقة والمتكلمين الذين يحرفون كلام الله ويجعلون قوانينهم حاكمة ومهيمنةً على قول الله وقول رسوله، ولذلك كان يحكم عليهم الشافعي بالضرب بالجريد والنعال، ولأنهم أكثروا من مناظرته جاء لهم بدليل يتناسب مع عقولهم ويفحمهم. أما نحن أتباع السنة والأثر والصحابة لا أتباع أرسطوطاليس لا نحتاج لمثل هذا الدليل للإجماع بل يكفينا فيه جعله وسيلة لتداول الاجتهادات في ضوء الكتاب والسنة وما يستخرج منهما، وذلك بأن نفهم الإجماع بأنه فرعٌ عن الشورى الثابتة بصريح القرآن وأنه أعلى مراتبها، وبذلك فإن أغلب نقاشات الأصوليين عن الإجماع تزول ولن تبقى لها أي حاجة كونها افتراضات أرسطية لا أمورا واقعية، فمع الأسف أن العقيدة والأصول أضحت علوم منطق لا علوم دين وهام العلماء بالجدل البيزنطي، وقد آن لنا أن نطهر فكرنا من هذه المهاترات ونعاديها. والله أعلم.