حقبة سوداء مظلمة مرت على العراقيين، لم يعرفوا فيها طعما لحياتهم غير المر، الممزوج بطحين يوزع عليهم، لايصلح حتى علفا للحيوانات .. من يعترض فسياط الجلادين تتلوى على كتفيه، وإن تمادى فسيوفهم تنزل على رقبته.

    ثمن الكلمة المعترضة قطع لسان قائلها على رؤوس الأشهاد، أناس تساق الى حفر الموت زرافات، الشعب عليه أن يمجد ويصفق ليل نهار للقائد الضرورة، فمن أجله خلقنا، ولأجله نحيا ونموت !.

  فرضت عليً ظروف ولادتي أن أكون من " جيل الحفاة " الذين فتحوا عيونهم والجلاد متربع على عرش السلطة، وجلاوزته يسيرون في الشوارع متبخترين، ينهرون المارة كالكلاب المسعورة، مدارسنا وضعت في مداخلها وعلقت على حيطان صفوفها صورة الجلاد، معلمونا أرتدوا "الخاكي" ووضعوا عصيهم في أيديهم، لتعليمنا أناشيد التمجيد، والتغني بإنتصارات القائد الوهمية، حيطان بيوتنا أصبحت جواسيس، تخبر رجال الأمن بكل همسة نقولها متذمرين، فلا نشعر الا وبساطيلهم قد رفست أبواب بيوتنا المتهالكة، ليأخذونا لمحاجر الموت، لانعلم أأشرقت الشمس أم غربت.

  من عائلة فلاحية فقيرة، كان هم إبنها إكمال دراسته الجامعية، ليكون أول فرد فيها يصل لهذه المرحلة، بعد إن لم يتمكن أخوته من ذلك، بسبب سوقهم قهرا الى صفوف الجيش، الذي يقاتل في حروب عبثية ترضي غرور الطاغية، ويحرق أجيال في محرقة الموت كان همها الحصول على لقمة العيش، ووضع رأسها على المخدة دون خوف، ومن أجل ذلك كان على هذا الشاب أن يدرس في النهار، ويعمل في الليل من أجل توفير مصاريف دراسته، ليرفع عن كاهل أسرته ثقلا لاتقوى على حمله، مما جعله أحيانا ينام أثناء محاضرة "الثقافة القومية" التي كان لا يطيقها، لإنها تتغنى بأهداف البعث وشعاراته، الأمر الذي جعل الرفيق الأستاذ يستاء منه جدا ويضع له درجات متدنية.

   بعد جهد وعناء وبعد عن الأهل، وتجاوز للمحن التي مرت على العراقيين، من حروب طاحنة أحرقت خيرة شباب، وحصار أمتد لسنين، جعل الفقراء يشدون الحجر على البطون، حصلت على الفرحة الكبرى حين تخرجت من الجامعة، وقدمت أوراق التعيين الى إحدى الشركات الصناعية، التي أعطتني ملفا كبيرا من الشروط والموافقات، يجب أن أحصل عليها قبل التعيين، أهمها موافقة الجهاز الأمني والفرقة الحزبية في منطقة سكناي، وبما إني من عائلة فقيرة متهم أغلب أفرادها بمناهضة البعث، والمشاركة في الإنتفاضة الشعبانية، كان اليأس حاضرا من نيل تلك الموافقات، لو لا تدخل القدر الذي دلني على صديق تعهد لي بالحصول علىيها، مقابل " هدية " تدفع الى أحد الرفاق ومدير الأمن !.

  حصلت على موافقات التعيين فرحا مستبشرا، كأن الدنيا فتحت ذراعيها لي، فذهبت مسرعا لتسجيل مباشرتي، لأبدأ حياة أخرى تنهي ماكنت فيه من تعب ومشقة، أبشر والديً الذين كانا ينتظرانني بشغف كأنه يوم ولادتي، فسلمت أوراقي للإدارة، بعدها تم توجيهي لمراجعة أحدى الغرف، وإذا بها غرفة المسؤول الحزبي لذلك القسم .. الذي يتحتم عليك أن تبجله، وتؤدي فروض الطاعة والولاء لحزب البعث !، فكانت الصدمة كبيرة حين طلب مني جلب إستمارة الإنتماء للحزب.. ومن أين لي بها وأنا لم أنتمي من قبل ؟، بعد إستدراك نفسي؛ واعدته أني سأجلبها، وبقيت شهورا وأنا أماطل وهو يلح، حتى تم إستدعائي للتحقيق لأني لم أنفذ ما طلبه الرفيق.

    تبع هذا التحقيق تحقيقات أخرى، كان يقوم بها " الرفيق "  لورود معلومات عن عدم إنتمائي للبعث سابقا.. فكانت تحاصرني عيونهم أينما ذهبت، وتغمزني كلماتهم كلما تكلمت، وأملأ إستمارات كثيرة تؤدي فروض الطاعة والولاء، وتعهدات بصحة ما أكتب وإلا فإن الحساب عسير.

   أحيانا كانوا يستدعونني الى " فرقتهم الحزبية " لأجل التحقيق، فيضعونني في غرفة أبقى جالسا فيها بمفردي حتى الصباح، وخواطر الخوف تملأ كياني كل لحظة، تخبرني بأنه حان موعد سجني، أو على الأقل فصلي من الدائرة، وما إن تشرق الشمس حتى يفتحون باب الغرفة، يأمرونني بالذهاب من حيث جئت مع إبتسامة ساخرة.

   ظل هذا الرفيق ينغص علي حياتي وأيامي لثماني سنين، لا أعرف كيف مرت وأنا أراه يوميا أمامي، متبجحا متبخترا أمام الجميع بأنه الحاكم الفعلي في شركة صناعية، يفترض بمن يديرها أن يكون حاصلا على مستويات هندسية عالية، حتى جاء عام 2003 وسقط نظامهم المقبور، وتنفست الصعداء بزوال ملك الطاغية، زالت معها آثار الشركة التي كنت أعمل فيها، وأصبحت نهبا للقوات المحتلة، وعملت فيها معاول " الحواسم " فجعلتها أثرا بعد عين، وأفترقت عن ذلك "الرفيق " متوقعا أنه سيلقى جزاءه العادل، وأنه ستتم معاقبته بحزم فهو من أزلام ذلك النظام البائد.

    لم أصدق نفسي؛ أنني بعد خمسة عشرة سنة سأرى وجه ذلك البعثي، وهو يطلب إضافته كصديق في صفحتي الشخصية على الفيسبوك، وتعجبت من الصفاقة التي يمتلكها أمثال هؤلاء، وأي وقاحة لديهم تجعلهم يتملقون حتى من ضحاياهم، دخلت الى صفحته الشخصية فوجدت إنه قد إنتمى لأحد الأحزاب الحاكمة وصار يتنعم بحمايتها، وأن أولاده تم تعيينهم في أماكن مرموقة، لكنه ما زال ساخط على النظام الجديد، وينفث سمومه في مدونته، يحن الى ذلك الوقت الذي كان فيه متمكنا من رقاب البسطاء، رغم إنه كان يستجدي كيلو الطحين، أو يأخذه كرشوة مقابل عدم كتابة تقرير سيئ.

   ما زال طلب الإضافة معلقا، لكنني أرى كل يوم أن عشرات البعثيين أمثاله ما زالوا يتنعمون بخيرات بلدنا، ونحن الفقراء ما زلنا " فقراء ".. صدقنا الشعارات الرنانة التي كانت تدعوا لإجتثاثهم، وهم يتسلقون سلالم السلطة ليحكمونا مرة أخرى، لكن بوجه جديد!

   ربما ٍسأقبل إضافته كصديق بعد أن رأيت قادة البلاد يسيرون معهم جنبا الى جنب، ويضعون أيديهم في أيدي الدواعش والقتلة، تحت عنوان المحافظة على اللحمة الوطنية.

   من يدري .. لعلي سأحتاج للحصول على موافقاته في أمر ما عندما يعود الى السلطة مرة أخرى، فهناك من يريد تمكينهم منها!.