إنطلق سيرا على قدميه على تلك الطريق الريفيّة محدقا بكل شيء...الأرض الخضراء، أشجار التفاح و الإجّاص على الجانب الأيمن و أشجار الزيتون على الجانب الآخر، ثم نظر إلى الشمس التي بدأت بالإرتفاع ببطئ و وقار شديدين بعينين تائهتين لا تعرفان إلى ما ستنظران أو إلى أين سيذهب صاحبهما بعد كل ما حدث...

كان لا يملك إسما فسيده يناديه بالرقم "أربع و عشرون".

لم يكن يعرف عن نفسه سوى أنه كان مجرد يتيم يجوب الشوارع و الأزقة جائعا، وحيدا، ضالا و في أحد أيام الشتاء القاسية وجده أحد الرجال الأغنياء.

كان رجلا سمينا لكن جميلا، صاحب شارب خشن طويل مع أنف صغير بفتحتين واسعتين و خدود لا تزال وردية ربما بسبب شربه للخمر أو هي كذلك فحسب ، شعره ناعم و خفيف يكاد يقضي عليه الصّلع. كان يرتدي قبّعة رماديّة مستديرة لم تستطع إخفاء صلعه الحديث مع بذلة سوداء لم تستطع كذلك أن تخفي بطنه البالونية.

في تلك الليلة الباردة قرّر أخذه معه من تلك المدينة القاسية إلى قريته الريفيّة الجميلة و جعله أحد الخدم مقابل العيش الكريم  في مزرعته .

لم يعلم بمسألة كونه "أسود" إلا عندما نبّهته زوجة سيّده بأن لا يقترب من إبنتها الصغيرة، لم يشعر بذلك عندما سكن داخل الإسطبل مع الخيول على عكس بقية الخدم "البيض"، لم يشعر بذلك عندما كانت توكل إليه مهام البهائم الصعبة رغم صغر سنّه .

شعر بذلك فقط عندما رأى نظرة الاحتقار البادية من عينيها، عندما سمع كلماتها الرنانة الشوكية المظلمة :

" لا تقترب منّا أيها الغراب ! كم أشمئز منك و من بني جنسك !".

...كلّ ذلك جعل بذورا فاسدة تزرع داخل قلبه الصغير ليكبر و تنضج معه ثمرة الحقد التي بداخله  و التي سيزيدها الغضب نضجا لتصبح إنتقاما يأسر عقله و روحه، شعر بأن تلك الزوجة تعتبره مجرد كائن أقلّ شأنا من الإنسان، شعر بالمذلّة، شعر بشيء يحترق بداخله...شعر بأن هناك شيئا خاطئا : كيف للون أن يجعل المجتمع ينقسم بطريقة غير متكافئة ؟!

بدأت أفكار غريبة تغزو عقله...فكّر بأن يقتل كل شخص يحمل مثل أفكار تلك المرأة ثم راودته فكرة أخرى :

أن يضعها داخل برميل مليء بالدهان الأسود لكي يجعلها مثله ثم يضع نفسه داخل برميل مليئ بالدهان الأبيض لكي يصبح مثلها ثمّ فكّر بأن يسلخ نفسه فيصبح لونه أحمر فيتحول إلى شخص جديد...

ظلّت الأفكار تروح و تجيء على مدار السنين، تذهب الفكرة لتحل مكانها أخرى، الأخيرة أسوء من التي قبلها بل أكثر جنونا و رعبا...بقي غارقا في بركة أفكاره الضحلة بينما ثمرة إنتقامه تنضج ببطئ على نيران غضبه الثائرة إلى أن حصل على الفكرة الناضجة و النهائيّة إضافة إلى جرأة كافية لتطبيقها...

بعد مرور عشرين عاما من الحقد و الكراهية ، خطّط في إحدى ليالي الشتاء القاسية بأن يقتل تلك العجوز الشمطاء ليريح ثوران حقده، خطّط لكلّ شيء حتى أنه ظنّ أن خطّته كاملة.

قام بتحضير قناعه و قفّازاته و لفّ السكّين بقطعة قماش مبلّلة بمخدّر قويّ ثم إختار ليلة من تلك الليالي النّادرة التي لا يكون فيها سيّده بالمنزل حيث يذهب في رحلة عمل- حسب قوله- فكثيرا ما يعود مع إحمرار فاضح متركّز على وجنتيه السمينتين -بسبب العمل بالطبع-.

إنطلق داخل المنزل الكبير و الحماس الذي حبس بداخله إنفجر ليملئ عينيه البنيّتين.

لقد إنتظر تلك اللّيلة بفارغ الصبر، كان يسمّي تلك اللّيلة ب"ليلة الخلاص"، الخلاص من تلك القيود العفنة التي صنعت من حقده المتراكم على مرّ السّنين و حقد تلك العجوز...

إنطلق يسرع الخطى و بين كل خطوة و نفس يخرجه تنبض بداخل عقله ذكرى ذلك اليوم لتصبح حطبا يغذّي لهيب الغضب و الحقد ليزيده إشتعالا و عزما، ثمّ وصل إلى ممرّ به غرف النوم حيث كانت غرفة العجوز هي الأخيرة لكن بقيت غرفة وحيدة مضاءة فعلم أنّ أحدهم لم ينم بعد في تلك الساعة المتأخرة فحاول أن يزيد من حذره و مضى...

فجأة حدث ما لم يكن أبدا يتوقعه، توقفت قدماه عن المضي، حاول أن يعاود التحرك لكنه لم يستطع، شعر لوهلة بالفزع لأنه ظن أنه قد شلّ لكنّه تدارك وعرف أن جسده توقف بسبب ألحان صادرة من الغرفة المضيئة .

(لسماع اللّحن إضغط هنا.)

أحسّ بشيء غريب كان يتحرّك بداخله، كانت تلك الألحان التي أخمدت لهيب الإنتقام فقرّر التحرّر من قيود الحقد، نعم بكل تلك البساطة قرّر ذلك .

لم يحاول حتّى أن يقاوم ذلك بل إستسلم بسهولة بالغة، سلام بارد و منعش أطفئ الشّعلة حتى آخر شرارة منها كأنّ شيئا لم يحدث.

سمع تلك الألحان فرأى كلّ شيء ...كأنّه يرى خارج جسده ، رأى أن لا فائدة ترجى من هذا الإنتقام، رأى أنّ كلّ ما سيجنيه هو ندم ثقيل على صدره و كوابيس لا تنتهي...

نزع قناعه و أخفاه مع تلك السكين في مكان بعيد...

لم يستطع مقاومة ذلك اللّحن فعاد و جلس قرب باب غرفة الألحان.

كان لحنا يجمع بين الحزن و الأمل . يتردّد بينهما ليجعلك غارقا داخل مزيج بين ذكريات الأيّام الخوالي بكل مآسيها و أحزانها لتنتهي بلحظات سعيدة هادئة مليئة بمحبّة و ضحكات صادقة فتحتضن قلبك بدفئها لتجعلك تظهر إبتسامة تكافح للظّهور بين كلّ تلك الّدموع.

حاول التّماسك لكنّه غطّ في نوم عميق كان قد إحتاجه منذ زمن بعيد فسرح في حلم دافء جميل ثم أحسّ بأنامل رقيقة تداعب شعره الخشن.

كان يظنّ أنّها أنامل أمّه التي لم يعرفها و لم يلتقيها طوال حياته، إقتربت الأنامل من خده و قرصته قرصة صغيرة جعلته يستفيق ففتح عينيه ببطئ فترائى له فتاة جميلة بلباس خفيف ناصع البياض فقال لها بصوت شخص يحتضر :

"- هل حان الوقت ؟

فابتسمت ثم أجابته :

- وقت ماذا ؟

- وقت أخذي إلى الجنّة .

- ما الذي تتحدث عنه ؟

- أولست ملائكة سترافقينني إلى السّماء؟

- ما الذي تتحدث عنه ؟! يبدو أنك تهلوس...

مسح عينيه جيدا فوجد فتاة في لباس نومها الأبيض فسألها مرتعبا :

- ماذا ؟!...من تكونين ؟

لكنها لم تجبه بل سألته :

- ماذا تفعل هنا ؟

لكنه لم يجب بل ظلّ ينظر إلى تلك العينين العشبيتين اللتين نقش فوقهما حاجبان دقيقان على ذلك الوجه الرشيق و النّاعم ، كان ينظر لذلك الشّعر الأسود المائل إلى الإصفرار المنسدل كأنه تجسّد للأمل و المحبة ثم أضافت:

- ماذا تفعل هنا ؟ ألم تعرفني ؟! أنا فاطمة.

- ماذا ؟! أأنت حقّا فاطمة ؟

- نعم أنا هي ألم تعرفني؟

- آسف، في الحقيقة لم أستطع معرفتك بتاتا ؟!

ثم تنهدت و أضافت :

- لك الحقّ في ذلك فأنت لم ترني منذ زمن طويل.."

ثم أدرك هو ذلك و قال في نفسه :

" كيف ذلك ؟ كيف لي أن أنسى تلك العينين النابضتين بالحياة ؟! يالني من أحمق ! لم أشعر بمرور كل تلك السنوات بسبب غرقي في التفكير بانتقامي أم علي القول بسبب منع تلك العجوز إقتراب إبنتها مني...لقد كبرت   و أصبحت فتاة جميلة حقا...يا إلاهي إنّني أشعر بأنّ قلبي يكاد ينفجر...حقا يا لها من فتاة ! إنّها أجمل فتاة رأيتها في حياتي ...ماذا ؟!..يالني من أبله !..هي ليست خرقاء لهذه الدرجة لكي تقبل بشخص مثلي...ما الذي أتحدّث عنه ؟...هل تراني جننت...أظنّ أنه يتوجب عليّ الرّحيل بعد كلّ هذا قبل أن أعود لمحاولة اغتيال تلك العجوز ...".

نهض من مكانه و همّ بالرّحيل فاستوقفته قائلة :

"- إلى أين أنت ذاهب ؟

- لا أعرف...لكنني سأرحل عن هذا المكان .

- إلى أين ؟

- لقد قلت لك لا أعرف...سأرحل فقط..."

ثم صمتا و أكمل مسيره خارجا من المنزل، ماشيا على تلك الطريق الريفية بينما كانت هي تتابعه عبر النافذة ثم وضعت يدها على قلبها و قالت في نفسها :

" أ يعقل أنني قد وقعت في حبه ؟...لماذا لم أستطع إيقافه ؟".

...ظلّت الشّمس ترتفع شيئا فشيئا فإستفاق من شريط الماضي ثم توقف عن المشي للحظة و إبتسم إبتسامة خفيفة ثم إستدار و عاد في إتجاه المنزل الذي هرب منه قائلا :

لقد حان الوقت لكي أستجمع شجاعتي لأحصل على حريّتي كاملة و لأستطيع أن أحبّ كما أشاء...تبا للجميع!...أنا أعلم أن الحبّ أعمى عن الأجساد و بصير على الأرواح و القلوب و هذا يكفيني...ها أنا قادم يا فاطمة !

-النهاية-