يتّخذ الحقل المعرفي صورة بُنْية نووية متفاوتة الأطراف؛ فالمعرفة ليست كلها حقائق، بل قد يخالط بعض القضايا المتحقّقة أو المُحكمة اشتباه أو تشابه، بل قد تتحول المتحققات إلى مشتبهات والمحكمات إلى متشابهات متى أخذت في الابتعاد عن المركز، وقد يزول الاشتباه عن المشتبهات متى أخذت في العودة إلى هذا المركز، وهكذا في تبادل متواصل للمواقع أو في تقالب دائم.
ولا يبعد أن نتصوّر الحقل المعرفي على شكل شبكة طبقية لا تتميّز فيها جملة من القضايا برتبة لا يبلغها غيرها شأن النسق، وإنما تتبادل فيها العناصر الرتب وتتزاوج وتتكاثر فيما بينها، حتى يصير الأصل مشتقا من الفرع، ويصير الكل منطويا في الجزء، وقد يصير المتشابه قائما بشرط المحكم كما أن المحكم قائم بالمتشابه؛ وحينئذ، يتخذ المجال المعرفي صورة مرآة صقيلة متعددة الوجوه؛ فالمعرفة ليست حقائق منفصلة، بل تتصل فيها المتحققات بالمشتبهات أو المحكمات بالمتشابهات اتصال كل واحدة بنظائرها، محصّلة الائتلاف فيما فيه اختلاف والاختلاف فيما فيه ائتلاف.
إذا جاز للمعرفة أن تخرج عن النمط النسقي وأن تلبس نمطا نوويا أو نمطا مرآتيا، جاز أن نستبدل بالنسق نظيره، وهو: القصص، وعندها، تبرز النماذج والقيم بوصفها بؤرا للإشعاع المعرفي المتواصل، فيكون الأخذ عنها حيا وعمليا، وتحضر الشواهد والأحداث بوصفها آثارا دالة على معان خفية وأسبابا دالة على مسبّبات بعيدة، فيكون النظر فيها اعتبارا.
والعقلانية المتقلبة لا تأخذ بالنسق وحده ولا بالقصص وحده، وإنما تتقلّب بينهما تقلبا، فتعبّر وتقتضي تارة حتى كأنها تنظم أحكامها نظما، وتعتبر وتقتدي تارة أخرى، حتى كأنها تنثر حِكَمها نثرا؛ وقد تجد في العبارة عينها اعتبارا، وفي الاقتضاء نفسه اقتداء، كما قد تجد في الاعتبار عينه عبارة، وفي الاقتداء نفسه اقتضاء؛ ولمّا كانت العقلانية المتقلبة نظما للأحكام ونثرا للحِكَم معا، اتخذت نمطا استدلاليا تكامليا، نسمّيه بـ "النمط الحِكْمي".
وإن مطلب النمط الحكمي ليس قائما في ملاحقة الاتساق ومطاردة التناقض شأن نمط العقلانية الاتساقية المضيقة، ولا يكون قائما في اجتناب الخطأ واجتلاب الصواب، بتقديم معيار التخطئة والتكذيب على معيار التصويب والتصديق شأن نمط العقلانية غير الاتساقية الموسعة، وإنما يكون قائما على اجتلاب الصواب فيما نعتقد فيه الصواب وفيما قد لا يظهر فيه هذا الصواب، حتى يقوم الدليل خلاف ذلك، لأن الخطأ هنا ليس نقيضا للحقيقة، أي باطلا، وإنما، على الأكثر، اشتباها، أو شبهة؛ والشبهة، متى عرضت، قد يتبين أمرها فيما يُستقبل؛ فإن كانت حقا، احتجنا إلى جلبه، وإن كانت باطلا، احتجنا إلى دفعه
سؤال المنهج "سمات العقلانية المتقلبة" بتصرف يسير.