(محاولة للفهم!)
يستعيذ المسلم بالله تعالى في أوقات كثيرة - وربما عقب كل صلاة بقراءة سورة الفلق - من (شر النفاثات في العقد؟) باعتبارها من شر ما خلق الله من مخلوقات معلومة لدينا أو مجهولة لنا!!... والتفسير الأثري المأثور عن الاسلاف وهو التفسير السائد حتى الآن حول ماهية النفاثات في العقد يذهب إلى التأكيد بأنهن السواحر !!.. أي النساء الساحرات اللاتي ينفثن بريقهن في العٌقد والرُّقى السحرية التي يسترضي من خلالها الساحر الشياطين لمعاونته في احداث تأثير (سيكولوجي) ذهني أو حتى ربما تأثير (بيولوجي) بدني – غير طبيعي - في الشخص المراد سحره!.... فأغلب التفاسير المأثورة عن السلف تفسر هذه العبارة (النفاثات في العقد) الواردة في سورة الفلق على أن المقصود بها السواحر!.. وكلمة (السواحر) هي جمع كلمة (ساحرة) كحال كلمة (الكوافر) التي هي جمع كلمة (كافرة)! .. وأما كلمة (نفث النفث) في اللغة العربية، فتعني قذف الريق القليل وهو أقل من التفل، ومنه قولهم: (نفثتِ الحية والعقرب سمها في دمي)، فالنفثات هي جمع كلمة (نفثة) أي المرة الواحدة فالنفث هو ارسال اللعاب من الفم ولكن بطريقة أخف بكثير من البصق والتفل!.. فالبصق والتفال هو قذف لكتلة متماسكة من اللعاب بقوة من الفم على الأرض أو الوجه، أما النفث فهو نفخ للعاب بطريقة خفيفة لطيفة فيخرج اللعاب من الفم في شكل دفقات ونثرات ورذاذ وقطرات صغيرة غير متماسكة هي أشبه بتلك الدفقات السائلة من لعاب الحية والعقرب المخلوط بسمها والتي تنفثها مع لدغتها في جسم ضحيتها، فتجري في العروق جريان الدم وتأخذ في نشر الخلل والشلل في الجهاز العصبي والعضلي للضحية!.. لهذا السبب ربما أشار بعض الأقدمين أن العقارب والحيات تدخل في مفهوم (النفاثات في العُقد) وهو ادخال معقول يحتمله النص حمال الأوجه!... فهذا عن تفسير أغلب المفسرين القدماء ولكن في زماننا ظهر من يدعو إلى تفسير عصري للقرآن وربما الدكتور مصطفى محمود من أوائل من دعوا إلى ذلك!.. وهي دعوة وجيهة لها ما يبررها ويعززها ولكن يجب الانتباه أن تجديد وتحديث تفسير القرآن أو حتى مفاهيمنا لتعاليم الدين عمومًا لا يشمل كل شيء!.. فإن من الدين ومن آيات القرآن بألفاظه وعباراته وأحكامه ما هو من الثوابت القطعية التي لا تتبدل بتبدل الأحوال!.. وإنما التجديد في فهم وتفسير الخطاب القرآني يكون في العبارات والألفاظ والآيات والاشارات القرآنية التي تدخل ضمن النصوص (ظنية الدلالة) و(حمالة الأوجه) التي ربما بالفعل يتبدل مفهومها وتفسيرها مع تطور علوم ومعارف الإنسان وتبدل الزمان والمكان!.. ولا شك أن عبارة (النفاثات في العقد) مما يدخل ضمن هذا النوع من ظني الدلالة حمّال الأوجه!.. فكما يمكن أن نفسر (النفاثات في العقد) بالسواحر، ربما لأن في ذلك الزمن كان الغالب على ممارسة السحر العنصر النسائي، فيمكن أن نفسره بالعقارب والحيات السامة التي تنفث سمها في عروق الانسان فيؤدي السم إلى إصابة خلايا الانسان العصبية بالخلل فيعود على الجهاز العضلي والتنفسي بالشلل مما يؤدي إلى وفاة الانسان أو اصابته بعاهات مستديمة!... فمع أن ضحايا لدغات ونفثات سموم الافاعي والعقارب كانوا قديمًا أكثر من زماننا المعاصر إلا أنه حسب إحصاءات دولية فإن ما لا يقل عن 100 ألف انسان يموتون سنويًا بسبب تعرضهم للدغات العقارب والحيات!.. بل وربما إصابة 400 ألف من الناجين من خطر الهلاك ببعض التشوهات والعاهات المستديمة المترتبة عن هذه اللدغات السامة!!.
والفيروسات كائنات خطرة جدًا على حياة وسلامة البشر!.. فهي كائنات سامة أيضًا ولكنها كائنات مجهرية دقيقة وخفية لا يمكن رؤيتها إلا بالمجهر الإلكتروني!.. لهذا لم يكتشف الانسان وجودها وخطورة تأثيرها إلا في العصور الحديثة مع أن وجودها سبق وجود البشر فوق الأرض ربما بملايين السنين حسب تاريخ الحياة وعلوم البيولوجيا!!.. والفيروسات وما شابه من كائنات مجهرية خفية غير مرئية بلا شك هي أخطر في تأثيرها السام والمدمر والضار بالصحة على البشر والكائنات الحية الأخرى من تأثير العقارب والحيات!.. بل وضحايا الفيروسات وما شابه أكبر وأكثر عبر التاريخ من ضحايا العقارب والحيات وما شابه!.. فسم العقارب والافاعي لا يتحول إلى وباء جماعي يسحق مجتمعات بكاملها بينما سموم الفيروسات وبقية الميكروبات السامة يمكن انتشارها بشكل جماعي ووبائي مدمر!، فمثلًا يُصاب حوالي خمسة ملايين شخص في جميع أنحاء العالم بالإنفلونزا في كل عام، ونحو ربع مليون من هؤلاء يموتون بسبب تداعيات سم الفيروسات!.. ومن هنا يمكن اعتبار الفيروسات وأخواتها أخطر من العقارب والحيات وأخواتها!.. ضف لهذا أن الفيروسات - فضلًا عن أنها (ترانا من حيث لا نراها!!) – هي كائنات خبيثة وماكرة ولئيمة جدًا !!.. فالفيروس منها يعيش في حالة همود تام كما لو أنه (دريكولا/مصاص الدماء) الذي يظل راقدًا في تابوته المظلم في سكون تام كما لو أنه ميت ولكن حينما يأتي الليل ويشم رائحة الدم ينتعش ويخرج من تابوته يفتك بضحاياه ويمتص دمائهم!.. هكذا تفعل الفيروسات مع الكائنات الحية!.. فالفيروس يظل في حالة كمون وجمود وهمود تام كما لو أنه ميت إلى أن يتمكن من الوصول لخلايا الكائن الحي واختراقها فيقوم بحيلة خبيثة ماكرة لا تخطر على بال هذا الكائن الحي المسكين الغفلان!.. حيث يقوم الفيروس بنفث حمضه النووي الذي يحمل (شفرة تكوينه الجيني) داخل مركز الخلية الحية التي يريد التطفل عليها ويستعملها في انتاج نسخ من نفسه!!.. فالفيروسات لا تتكاثر بالتزاوج بين ذكور واناث بل باستعمال طابعات خلايا الكائنات الحية الأخرى مثل خلايا جسم الانسان لإنتاج نسخ من أنفسها!، أي انتاج نسخ جديدة وعديدة من الفيروسات (نسخ من جيش العدو!)!.. فالفيروس الغازي يخدع خلايا الجسم ويسرب اليها ومعلومات (جينية) مزورة، فيختلط الأمر على خلايا أجسامنا، وإذا بها تأخذ في انتاج نسخ عديدة وجديدة من نفس هذه الفيروس (العدو الخفي الغازي) وهي تحسب أنها تحسن صُنعًا معتقدة أنها تقوم بإنتاج نسخ من ذاتها أي من خلايا الجسم حيث تحتاج أجسامنا لتجديد خلاياها بصورة مستمرة لاستمرار الحياة وبقاء النوع!!.. لهذا أجدني أميل إلى تفسير الدكتور (مصطفى محمود) – رحمه الله – القائل بأن الفيروسات هن (النفاثات في العقد) التي أمرنا الله بالتعوذ به منهن ومن شرهن في سورة الفلق وليست السواحر أي الساحرات!!.. تفسير القدماء أن النفاثات في العقد هن السواحر أي جمع الساحرة فيه نظر!.. كيف يتم تخصيص السحر في عنصر النساء فقط!؟؟.. بينما السحر كما نعرفه عبر التاريخ أسياده ومعلموه الكبار – بما فيهم سحرة فرعون – هم من الرجال والذكور لا من الاناث!!!!!.. بل أن المشتغلين بالسحر بفنونه المختلفة وهو قائم على الاستعانة بالشياطين والقوى الخفية في الانسان (*) في مجتمعاتنا العربية بل وفي افريقيا بل في العالم أكثرهم من الرجال وليس من النساء!.. فكيف يتم حصر السحر بالسواحر أي العنصر النسائي دون العنصر الرجالي وهو الغالب والأكثر؟؟!... بصراحة ربما يكون هذا التفسير هو تفسير بشري وذكري!.. أي ربما تأثر بما يُسمى بـ((الفقه الذكوري)) القائم على تلبيس النساء كل ما هو شر والانقاص من قدرهن باسم الله وباسم الدين!، وهو على ما يبدو نزعة قديمة لدى المتدينين في كل الأديان!، أي كما في المسيحية حيث يتم اعتبار أن (حواء) هي من جرت (آدم) بحبائل وكيد النساء إلى الأكل من الشجرة المحرمة وبالتالي جنت على البشرية بالطرد من تلك الجنة!!.. بينما القرآن برَّأها من هذه التهمة المسيحية التي ربما أخذها رجال الكنيسة من الاساطير الاغريقية والرومانية القديمة كأخذهم قصة تضحية الإله بابنه الوحيد!!.. فالقرآن في آيات كثيرة برأ المرأة مما ينسب اليها فيما يتعلق بخطيئة آدم الأولى!.. وأكد في آيات قرآنية كثيرة أن الشيطان (ابليس) غرر بآدم وحواء معًا و((دلاهما بغرور!)) هكذا بلفظ المثنى لا بلفظ المؤنث فقط!.. بل في آيات أخرى نجد القرآن جعل الذنب ذنب آدم على وجه التعيين في تلك الخطيئة الأولى، قال تعالى: ((وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا !)) وقال: ((وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى))... وهذا بعكس ما جاء في الكتب السماوية الأخرى (المُحرَّفة) حيث يُشار فيها بأصبع الاتهام إلى أمنا (حواء) باعتبارها (المُتهم الأول) في كارثة طردنا من الجنة الأولى!.
وهكذا فتفسير (النفاثات في العقد) بالسواحر أي النساء الساحرات والمشعوذات قد يكون تأثر بضغوطات الثقافة الذكورية التي لازالت تسيطر على المجتمعات البشرية كلها!.. والبشر بشر بما فيهم الصحابة رضي الله عنهم، فهم ليسوا معصومين من جهة ومن جهة هم أبناء طبيعتهم وبيئتهم من جهة أخرى، ولهذا فلا يمكن اعتبار تفسيراتهم وتأويلاتهم للقرآن الكريم هو أمرًا مُقدسًا نهائيًا وفوق النقد العقلي والعلمي!! ... ولهذا فإنني أرجح صحة تفسير (مصطفى محمود) بأن النفاثات في العقد ربما تكون هي (الفيروسات) وما شابه من كائنات مجهرية خبيثة وماكرة وضارة!، وهو ما يرتاح إليه العقل والقلب على السواء!.. فالفيروس ينفث حمضه النووي الذي يحمل جيناته في قلب خلايا جسم الانسان وبالتالي يختلط الأمر على طابعات الخلايا فينطلقن في انتاج نسخ من عدوهن الخبيث الماكر وهكذا يتنشر الفيروس في الجسم ويتسبب في مرض الانسان وطرحه أرضًا وقد يؤدي بحياته!! ... بالله عليكم أليست هذه الكائنات الخفية غير المنظورة المتناهية في الصغر وشديدة المكر والدهاء هي من شر مخلوقات الله التي يجب علينا الاستعاذة بالله منها فهو أدرى بها وبخطورتها ومكرها ومدى الحاقها الضرر بنا بشكل مستمر!! الفيروسات – وما في حكمها من بكتيريا ضارة وديدان مجهرية - وبهذا المكر والخبث وبما تتسبب به من أمراض وبائية تهلك الكثير من البشر والزرع والضرع كل عام - هي بلا شك من شر ما خلق!.. فهذه المخلوقات أخطر مليون مرة من قصة وخطر السواحر أي الصبايا والنساء والعجائز الساحرات!... وربنا يحفظنا ويحفظكم من النفاثات في العقد سواء وفق تفسير الأقدمين من السلف أو بتفسير المعاصرين من أمثال الدكتور مصطفى محمود .. والله أعلم بمراده!.
*******************
سليم نصر الرقعي 2019
(*) يعتقد الكاتب الوجودي البريطاني (كولن ولسن) في بحوث نظرية وميدانية أجراها حول ما أطلق عليه اسم (الانسان وقواه الخفية!؟) - وهو اسم أحد كتبه المتعلقة بالغيبيات - أن هناك ما يمكن تسميته بـ(القوى الخفية) الكامنة في الانسان نفسه، ربما في خلايا الدماغ المجهولة والنائمة!، وهي القوى المجهولة في الانسان والتي بالأساس يعتمد عليها من تظهر عليهم تلك الظواهر الغامضة غير المفهومة التي يُطلق عليها مسمى (خوارق العادات) أو (قوى ما وراء الطبيعة!).. كالسحر والقدرة الحسابية الخارقة غير المفهومة واكتشاف مكان أشياء ضائعة ومفقودة بقوة الحدس!.. أو تحديد مكان المياه الجوفية بطريقة غير علمية!.. أو القدرة على التنويم المغناطيسي أو حتى الاتصال بعالم الجن عن طريق وسطاء يملكون بعض الخصائص النفسية والذهنية والعصبية تجعلهم يتحولون – عند التنويم المغناطيسي أو عند الغيبوبة بسبب تلاوة وترتيل عبارات دينية – إلى ما يشبه (جهاز استقبال)(راديو/هاتف لا سلكي) يلتقط موجات خفية قادمة من العالم الآخر!.. عالم الجن!.. حيث يأخذ هذا الوسيط بلسانه – وغالبًا بلغته العامية - في التلفظ بعبارات تُعبّر عن تلك الإشارات والموجات القادمة من المجهول!.. ولا يعني هذا بالضرورة أن روح تلك الشياطين أو الجن قد تلبست هذا الوسيط بالضرورة أو حلت محله على كرسي التحكم في ناصية الدماغ بل هي في الغالب عملية استحواذ وتحكم عن بعد كحال العلاقة بين جهاز المرسل اللاسلكي وجهاز المستقبل ولكن الأمر هنا يحدث لا بواسطة الموجات (الكهيرومغناطيسيىة) بل ربما بواسطة موجات (بيولوجية/عصبية) مجهولة تقوم بنقل المعلومات من دماغ انسان لدماغ انسان آخر بما يشبه ما يسمى بـ(التلباثي)!.