(عن قصّة حقيقيّة)


ها قد بدأت قطرات المطر تنهمر على نافذة المنزل القديم ، إنطلق صوت المذياع الغريب يترنم بداخله مطرب قديم منشدا كلمات لا أحد يدري ما كننها...

كان الشيخ محمّد يجلس قرب النافذة بينما كانت زوجته جالسة قرب مدفأة الحطب، كان يتأمل تلك المسارات التي خلقتها قطرات المطر على زجاج النافذة بينما كانت هي تقرّب يديها المرتجفتين من لهيب المدفأة التي إنتشرت منها رائحة جميلة تجعلك تشعر بالحنين إلى سنين مضت ثم إلتفتت إلى إطار مزخرف قديم،وحيد،على حائط مشقق كانت به صفحة من جريدة قديمة، كان بها مقال مرفق بصورة لعون أمن شاب تقبّله إمرأة عجوز من جبينه ثم إلتفتت إلى الشيخ :

- آه...أتتذكر ذلك اليوم؟

- نعم و كيف لي أن أنساه ؟ ثم أضاف متنهدا :

- لقد مرت ثلاثون سنة على ذلك اليوم لكن بقيت أتذكر كل ثانية كما لو كان بالأمس...

كان يوما مثلجا، كانت البلورات الثلجية تتساقط ببطئ شديد و أحيانا تجرفها الرياح لتجعلها تتساقط بسرعة، كان السكون مخيما على المكان لدرجة أنني صرت أسمع دقات قلبي و أنفاسي التي كانت تتسارع بسبب شعوري بالبرد الذي بدء يتسلل عبر زي العمل السميك.

كانت مهمتنا هي حراسة أحد المخازن الواقعة بأحد الأرياف القريبة من مدينة "تيقاسلا" أثناء نقل البضائع إلى الشّاحنات، رغم جلوسنا في سيّارة العمل لم يفارقنا الشعور بالبرد أبدا كما لم يفارق السائل المخاطي فتحتي أنفي، كنا نمسك بأسلحتنا و أيدينا ترتعش و لا أدري ما سبب ذلك الإرتعاش، أهو البرد القارس أم بسبب سماعنا لخبر إستشهاد عدة أعوان بسبب العملية الإرهابية التي حدثت منذ عدة أيام...

إرتجفت قليلا عندما تذكرت ما رأيت من صور الشهداء مع دمائهم الحمراء القانية التي روت تراب بلادهم ثم زاد إرتجافي عندما تخيلت جنازتي و وجه إبني الصغير حديث الولادة و كيف ستنزع منه البسمة و يزرع في مكانها الحقد و الغضب، كنت سأموت حقا خلال غرقي داخل ذلك الكابوس المخيف لولا أن لكزني زميلي ثم إبتسم معبرا عن معرفته بما كان يجول برأسي فقال:"لا تخف ! تحل بالأمل فالأمل يقتل الخوف" .

فور سماعي لتلك الكلمات شعرت بالإرتياح و الدفء الشديدين ، كانت كلماته أشبه بنخاع مذاب يتسرب إلى عظامي.

بينما كنا نتحدث إذ بي أرى شيئا يظهر خلال العاصفة الثلجية ، كان طيفا لشخصين كانا يمشيان ببطئ و بعد برهة ظهر زوجان مسنان، كانا يبدوان في الستينات أو السبعينات من العمر ثم بدأت بملاحظة أن المرأة العجوز تمشي ببطئ أشد من زوجها.

كان وجهها مصفرا و كانت تترنح بين الحين و الآخر و زوجها يحاول الإمساك بها و هو نفسه يحاول التماسك. كان منظرا مؤسفا، كيف لعجوزين أن يتحملا هذا المناخ القوي و البائس مع تلك الصحة الضعيفة و العظام التي إهترأت مع الأيام ؟!

فتحت الباب و حاولت الإقتراب مع الحرص الدائم على جعل مسافة جيدة بيني و بينهما و بعد أن إطمأن القلب و سكنت الروح تأكدت من سلامة الأمور فأسرعت الخطى و سألتهما :

"- عذرا، أ يمكنني أن أعرف إلى أين أنتما ذاهبان في مثل هذا الطقس ؟

فحاول العجوز النظر إلي بكل قواه لكنه لم يستطع بسبب تقوس ظهره ثم أجابني بصوت مرتعش أحسست داخله ببعض خشونة إضمحلت مع مرور الوقت :

- عذرا يا بني فكما ترى فإن زوجتي مريضة بسبب برودة الطقس هذه الأيام...

- لكن ألا يمكنها أن تصبر قليلا إلى أن تهدأ العاصفة ؟

- آسف يا بني لكنني طلبت منها ذلك فأبت بسبب شدة المرض.

- حسنا تعالا معي كي أقلكما بالسيارة."

بالطبع نلت كفايتي من أدعيتهما لي بالصحة و العافية طول العمر و لم يتوقفا عن ذلك حتى وصولهما للسيارة. ركبنا فشرحت لزميلي ما حصل و دون تردد وافقني على إيصالهما ثم حاولت تشغيل السيارة و يا للحظ العاثر ! فلقد توقف المحرك عن العمل بسبب برودة الطقس و بدأت الشعور بالغضب و الحرج الشديدين حتى أني ضربت المقود بقوة.

شعرت بالحرج، شعرت بالفشل بل لم أستطع النظر إلى وجهيهما لكن رغم ذلك إسترقت النظر فوجدت وجه تلك العجوز شبيها بوجه أمي رحمها الله، رغم كل التجعدات التي إستعمرت وجهها إلا أن هناك جمالا مخفيا إختفى بسبب إختبار الزمن لكن بقيت هالته واضحة فياضة من خلال عينيها الحورانيين فزاد شعوري بالمسؤولية تجاه ما يحدث فقررت حملها سيرا، نعم لقد قررت ذلك.

"سأنقذ تلك المرأة ! سأفعلها مهما كلفني الأمر ! "

طلبت منها أن تركب فوق ظهري كي نستطيع الذهاب أسرع فابتسمت و فهمت أنني قد أحرجتها فتقاليدها التي ربّيت عليها جعلتها تشعر بالحرج حتى في أوقات الشدة فأعدت عليها طلبي و ألححت في ذلك قائلا :

" أرجوكي لا تستحي مني ! إن الوقت يمر و حالتك ستسوء ! أرجوكي أنا أرى فيك صورة أمي المتوفاة فلا تجعلني أخسرها ثانية " .

فور سماعها لتلك الكلمات إمتطت ظهري و إنطلقت بسرعة لم أستطع فعلها منذ سنوات...

شعرت بأن شيئا يدفعني، و الأفضل من ذلك أننا لم ننزلق و لم نواجه أي عقبة في الطريق ، لقد كانت معجزة إلاهية ...

كنا في المستشفى عندما أتى أحد صحفيي المدينة المشهورين الذي كان بدوره مريضا .

كنت جالسا على مقاعد الإنتظار منشغل البال على حال "أمي" بينما لحق أخيرا زميلي و الرجل العجوز فجلسا بقربي.

لم يتردد الصحفي في الدخول على غرفة التمريض دون إستئذان كأنها إحدى غرف منزله لكنه سرعان ما أطرد سريعا من قبل إحدى الممرضات التي كانت تدفعه و تعاتبه بوجه و إبتسامة منشرحين و كان ذلك نقيضا لطبيعتها فعندما أتينا لم تواسينا و لو بابتسامة واحدة بل أرتنا وجها عابسا يزيد المرض على المرض فكنت أتساءل ما الذي يحول وجه التعاسة ذاك إلى نقيضه ؟ .

ثم إنتبهت إلى عينيهما المتراقصتين فرحا و الأيدي المتلامسة و أخيرا خاتمي الخطوبة فكانت الإجابة واحدة.

إنها الحب يا ولدي! إنه الذي يطحن الحجر الصلب فيحوّله طينا طريا .

عادت هي إلى الغرفة بينما جلس هو بقربي و بدأ بمحاولة التحدث معي أو بالأحرى محاولة إشباع فضوله عبر أسئلته التي تكاد لا تنتهي لكنني لم أخرج حرفا متجاهلا محاولاته البائسة بل رمقته أيضا بنظراتي الحادة لجعله يفهم ما أريد قوله ، أعلم أنه ليس تصرفا ناضجا لكن كان لدي سبب جعلني أفعل ذلك فلقد كنت أعرف ما يجول برأسه و هو الحصول على سبق صحفي كغيره من الصحفيين فهو يظن أن أحد زملائي هو المريض بل كنت متأكدا من أن خياله جعله يظن أن زميلي مصاب بسبب عملية إرهابية فما لبث أن ذهب بعيدا عني ليقترب من العجوز و زميلي و خلال لحظات فتح الحديث بسهولة.

لم أسمع حديثهم لكنني أيقنت أنهم كانوا يتحدثون عني بفضل نظراتهم و إبتساماتهم الخفيفة نحوي لكني لم أهتم بذلك كثيرا فمعظم تركيزي كان منصبا على معرفة حال المرأة العجوز و بعد برهة خرجت هذه الأخيرة         و برفقتها الممرضة و هي تبتسم.

لقد تفاجئت بهذا التحول الغريب نحوي بعد ما كانت لا تكاد تنظر إلي ثم إقتربت و قالت :

" كل شيء بخير لذا فلتطمئن...لقد منحتها بعض المضادات الحيوية و ستكون بخير أيها...المنقذ ! ".

كان لكلمتها الأخيرة وقع غريب و بعد لحظات إستنتجت بأن العجوز لم تفقد صفتها " النسائية" بعد  ألا وهي الثرثرة فلقد أخبرت الممرضة عن الأمر ثم إقترب الصحفي مني و قال بكل تفاخر :

" أظنني وجدت سبقي الصحفي، أليس كذلك ؟ "

 و هكذا تأكدت بذلك بأن الجميع أصبح يعرف القصة فاستسلمت لإلحاحاته و فاز بمقابلة معي و بينما كان يطرح علي الأسئلة نظرت إلى الزوج فوجدته ينظر نحوي بنظرة الأب الفخور بابنه...

- لقد كان يوما لا ينسى بحق ! ماذا كتب عنك وقتها ؟

- لقد كتب مقالة بعنوان "البطل" ثم أضاف عنوانا فرعيّا تحته:

" الأبطال الحقيقيون ليسوا أولائك الذين تشاهدونهم في التلفاز. ".

-النّهاية-