كان يمعن النظر إلى العين التي تخرج ماء باردا لذيذا في ذلك اليوم الحار. ملأ خزانات المياه الصغيرة ثم وضعها فوق ظهر حماره و إنطلق نحو منزله البعيد...

وصل أخيرا بعد جهد كان قد إعتاده رغم صغر سنه فوجد أمه في "الزريبة"، كانت قد عادت هي نفسها من رعاية الأغنام ثم عادا معا إلى المنزل للعشاء...

حل الفجر، أفاق فأعد نفسه إستعدادا لأول يوم دراسي بعد العطلة الشتوية ثم إنطلق وحيدا بعد أن رافقته أمه لبعض الأمتار.كانت طريقا جبلية، متعرجة مليئة بحفر أحدثتها الأمطار و الدواب و أحيانا السيارات لكنه إعتاد كل تلك العوائق مع مرور السنين منذ أن كان في المدرسة إلى أن أصبح الآن في الثانوية و فجأة رأى طيفا شبيها لأخيه المتوفي حديثا فعادت إليه ذكريات ذلك اليوم...

لقد كان يوما يتمنّى فيه المرء لو تنشق فيه الأرض و تبتلعه، كان قد عاد من المعهد مبكرا فاعترضه أحد جيرانه بوجه مصفر خال من الحياة و قدم له تعازيه الحارة فلم يفهم شيئا إلا عندما وصل إلى بيته فوجد أمه أمام البيت تلطم وجهها و تقتلع شعرها و الجيران حولها يبكون بكاء مخيفا تقشعر له الأبدان و عندها فهم ما حدث.

سمع ذلك الخبر الذي يصم الآذان ، الصادم الذي جعله يصرخ كما لم يصرخ من قبل، لقد تحدثت عنه جميع جميع وسائل الإعلام :" أُستشهد جملة من جنود الجيش الوطني صبيحة ذلك اليوم ". لقد قتله "الجرذان المنوّمون". بكى كثيرا لدرجة أنه بقي يومين نائما و أسبوعا كاملا بدون أن ينطق و لو بحرف واحد و له الحق في أن يصدم هكذا فلقد كان يعوض له مكان أبيه الذي توفي و هو لا يزال في رحم أمه، كان ليبقى هكذا طول حياته لولا أنه في صبيحة ذلك اليوم وجدته أمه ينظف "الزريبة" كأن شيئا لم يحدث، لا أحد يعرف ما الذي شفاه من ذلك حتى أمه لا تعرف لكن الذي شعر به الجميع أنه لم يعد كما كان عليه سابقا ، لقد أصبح أكثر نضجا لكن لهيب الحماسة المعتاد لم يختفي من عينيه البنيتين بل زاد تأججا، أصبح يطيع أوامر والدته على عكس ما كان في الماضي، أصبح هادئا، جادا، لا يهمه شيء سوى تلبية حاجيات أمه حتى أنه عمل الصيف الماضي في بيع الخضر و الفواكه عند أحد الباعة الشحيحين...

إقترب الطّيف شيئا فشيئا فاكتشف أنه لم يكن سوى صديقه...

وصل الأولاد إلى مكان الحافلة بعد أن إجتمعوا على الطريق الرئيسية منتظرين قدومها متحدثين عن ما حدث في العطلة و إستيائهم لإنتهائها بسرعة ، لكن طال الإنتظار بشكل مريب فأتى حارس مدرسة القرية جريا و بيده هاتفه مخبرهم بأن سائق الحافلة قد أخبره بأن الحافلة لن تأتي بسبب عطل في المحرك فقرر الجميع العودة لمنازلهم ما عدا ذلك الولد.

بدأ بالمشي على الطريق المعبدة الطويلة فاستوقفه صديقه :

"- ما بك ؟ إلى أين تظن نفسك ذاهبا ؟

- إلى المعهد.

- هل أنت أحمق ؟! كيف لك أن تمشي كل تلك المسافة على قدميك ؟!

- أولا، اليوم هو الإثنين و نحن في الصباح الباكر لذا لن نجد وسائل نقل و حتى إن وجدنا فلن نستطيع لأننا و ببساطة لا نملك المال الكافي لذلك.ثانيا، لا بأس، يمكنك الذهاب فأنا لم أطلب منك الذهاب معي.

-لكن...لكنّني لن أستطيع تركك تذهب وحدك ! ثم أضاف مضيفا إبتسامة صغيرة على وجهه المتوتر :

- علي أن أذهب معك دائما حتى عندما أعلم أنك تريد إيقاعنا في المشاكل...لأن هذا ثمن صداقتنا... ابتسم الآخر مربتا على كتف صديقه:

- إنك حقا صديق حقيقي لكن الآن علينا الذهاب بسرعة فكفاك تذمرا و لننطلق ! "

ثم إنطلقا معا على الطريق المعبدة...كانت حقا طريقا طويلة، خالية من الحياة سوى من عدة شجيرات على جانبيها، كان يوما حارا رغم كونهم في بداية فصل الربيع، كان الفتى يمشي بكل عزم و قوة بينما كان يتبعه صديقه بخطوات بطيئة متذمرا من طول الطريق فيلتفت الأول للثاني و يحثه على الإسراع قليلا و لكن بعد مدة تعب الولدان فجلسا على صخرة كبيرة ليرتاحا قليلا قبل أن يعودا للسير مجددا.

نظر صديقه إلى ساعة يده فقال بصوت هادئ مخيب للآمال :

"- إنها التاسعة صباحا...يبدو أن الحصة الأولى قد إنتهت...على الأقل لن نظطر إلى ملاقات تلك البغيضة

- أتقصد السيدة سعاد ؟

- نعم، لم أكره شخصا مثلها في حياتي، عليها اللعنة ! فلتذهب إلى الجحيم !...

- لماذا ؟

- ألم تلاحظ أنها تحتقرنا؟

- كيف ؟

- إنها تقول عنا أننا أبناء الريف الوسخون، ألم تسمع هذا ؟

- لا لم أسمع هذا لكنني رأيتها كيف تشمئز منا..."

و بينما هما يتحدثان إذ بسيارة تمر بالقرب منهما ثم تتوقف...

...سُحب زجاج النافذة و ظهر شاب في مثل عمر أخيه رحمه الله فوقفا و بقيا ينظران دون أدنى حركة أو صوت فابتسم و طلب منهما الإقتراب ثم قال :

"- صباح الخير ، هل أنتما ذاهبان إلى المدينة ؟

فأجاب الصديق دون تردد و بكل بلاهة :

- نعم !

- يمكنني أن أوصلكما...فلتركبا

- حسنا !

فلكز الفتى صديقه لكزة جعلت هذا الأخير يتوجع متسائلا :

- يا إلاهي !...لماذا ضربتني هكذا ؟

- ضربتك لأنك أبله...

- ماذا ؟!

- ألم تتعلم ألا تتحدث مع الغرباء ؟!

- لكنه سيوصلنا فقط .

- لكن ماذا لو كان سفاحا أو إرهابيا ؟!

- لكنه يبدو شخصا طيبا .

- فقط ؟...يا لك من شخص أبله حقا هل تحكم على الأشخاص فقط من خلال ما يبدون عليه .

- لكن جدي كان يقول لي دائما أن العين مرآة القلب و عندما رأيت عيني هذا الشخص وجدتهما لا تحملان حقدا و لا كراهية.

- إذا ستصدق ما يقوله جدك.

- بل سأصدق ما يقوله قلبي.

- إذن لا يوجد مفر من هذا...على الأقل لقد أحضرت معي سكين أخي القديمة."

ثم إلتفتا إلى الشاب و قبلا بعرضه و ركبوا معه و إنطلقوا....

بعد صمت طويل داخل السيارة إفتتح الفتى الحديث قائلا :

"- عذرا لكن لماذا أتيت إلى هذا المكان ؟

- حسنا...لنقل أنني أتيت لزيارة صديق.

- صديق ؟ لكنك تبدو غريبا عن هذه المنطقة.

فابتسم الشاب قائلا :

- نعم بالفعل...لكنه كان زميلا لي.

- كان ؟ ماذا تقصد بذلك ؟

- لقد قتل حديثا...

فاقشعر جسد الفتى بسبب فكرة مجنونة خطرت بباله ألا و هي كون هذا الشخص سفاحا فوضع يده بجيبه الذي يحوي السكين ثم حافظ على هدوءه و أكمل حديثه :

- لم أفهم ما قلته .

- لقد أستشهد زميلي حديثا خلال تأدية عمله حيث قتل بغتة هو و أفراد فرقته على أيدي أولائك الجرذان و جئت اليوم لأزور قبر صديقي ثم زرت منزله فوجدته أمه التي سمعت منها خبر إستيقاظ أخيه من الصدمة و أنه ذهب إلى المعهد...هل هو زميلكما؟...أ تصدق أنني لا أعرفه حتى هذه اللحظة؟..

و فور سماعه لما قاله الشاب ترك السكين و إغرورقت عيناه فأجهش بالبكاء ثم قال :

- أنا هو ذلك الفتى...أنا هو الأخ الصغير لصديقك.

فابتسم الشاب و أطلق ضحكة لطيفة و مسح بيده على شعر الفتى و قال له :

- ماذا هل تبكي ؟ هيا توقف و إلا سأصدق ما قاله أخوك عنك.

فتوقف عن البكاء و قال له :

- ماذا قال عني ؟

- لقد قال أنك شديد البكاء و لست ناضجا كفاية لتكون رجلا شجاعا.

فظهرت إبتسامة بين الدموع تشع أملا و قوة ثم قال ضاحكا :

- إذا سأثبت له العكس ! "

هكذا على تلك الطريق الطويلة إكتشف الفتى و الشاب أحدهما الآخر و عندما وصلوا إلى المدينة تصافحا و قال الشاب بكل ما يحمله من عزم و قوة :

"- أعدك أنني سأقضي على هؤلاء القتلة مهما كلفني الأمر فابتسم الآخر و قال له :

- و أنا أعدك أنني سأبذل قصارى جهدي للحاق بك و الثأر لأخي ! "

تواعدا للثأر على موتة الأخ و الصديق وعدا سكن قلبيهما و اخترق السماء لتسمعه كل المخلوقات و ليسمعه الكون بأسره، وعدا أجج نار الشجاعة لديهما لكي لا يستسلما.

وصل الولدان إلى المعهد بعد أن فوتا حصتين و نالا نصيبهما من التأنيب من قبل القيم العام و الأستاذ لكن كل شيء مر على خير...

إنتهى اليوم و عاد الولدان إلى منزلهما و عندها إستجمع الصديق جرأته و سأل الفتى :

"- آسف على فضولي لكن هل يمكنني أن أعرف ما الذي جعلك تعود للوقوف على قدميك مجددا ؟

فابتسم الفتى و أجاب دون تردد :

- كان حلما.

- ماذا ؟!

- نعم، كما سمعت فلقد كان حلما.

- و ماذا كان ذلك الحلم ؟

- حسنا ، في تلك الليلة حلمت بلقاء بيني و بين أخي...كنت أبكي في حقل أخضر تحت شجرة وارفة الظلال و عندها مر أخي من هناك فابتسم ضاحكا :

"- ماذا ؟ أ مازلت طفلا بكّاءا كعادتك ؟ أ لم يحن الوقت المناسب كي تنضج قليلا؟!

لم أجبه في البداية فعاد إلى إبتسامته مجددا بينما قلت له :

- لماذا رحلت عني ؟

- آسف، الأمر ليس بيدي...

ثم تغيرت نبرة صوته الهادئة إلى نبرة غاضبة :

- ماذا ؟! أتعني أنك ستنهار لأنني رحلت ؟ أ تسمي نفسك رجلا ؟ ألم تعدني بأنك ستعتني بأمي فور غيابي ؟ أ لم يكن هذا وعدنا ؟

شعرت بالحرج فمسحت دموعي ثم وقفت و لكمت صدره و صرخت في وجهه :

- من تعنيه بالطفل ؟ لقد أصبحت رجلا الآن و أنا لم أخلف لك بالوعد و لن أخلفه طالما مازلت على قيد الحياة.

فعاد إلى الإبتسام و مسح بيده على شعري ثم رحل ببساطة لكنني عدت إلى صراخي:

- أ تسمعني ؟ لقد أصبحت رجلا !

فالتفت إلي و قال :

- إذن فلتعش قويا ! "."