Image title- مراجعة أفكار لرواية "نحن" ، للكاتب الروسي : يفغيني زامياتين -

كنت أقول لأحد أصدقائي ، أن تعريفي للعمل الجيد ، مقروءًا كان أو مسموعًا او مرئيًا ، أنك تشعّر بشكل ما أنه يحدث خلالك ، يجري في مكان ما داخلك ، وعندما تفارقه تشعر أنك تخرج من جزء من ذاتك ، أو أن ذاتك لم تعد إلا شيئًا جديدًا يضافُ إليه هذا العمل ويستقر في مكانه!
وهذه الرواية شيء من هذا ، لم استخرج من رواية ديستوبياوية كل هذا الكمّ من الأفكار المتجسدّة في الحكاية مثلما حدث مع هذه الرواية ، ولم أجد نفسي أحلّل طول الوقت مكنونات الكلام كأنّي شيئًا لفيسكي - والذي هو بالمناسبة شعورٌ نادرٌ جدًا في الرواية -
قد يكون العمل في مستواه الروائي ليس بالمبهر - وهذه سمة ظاهرة في اليوتوبيا والديستوبيا - ولكنه على مستواه الفكري عمل مذهل! ، الأكثر عجبًا في الأمر أن الرواية نشرت في العام 1924 ، والآن ، في العالم 2019 ، نرى بوضوح ، الرواية وكأنها أمامنا ، لا شيء زيادة!
ولهذا قررت أن تكون مراجعتي للرواية على نمط مختلف ، فبدلًا من مراجعة الرواية نفسها ، بأحداثها وشخصياتها وخلافه ، سأكتب عن الأفكار التي رأيتها من خلال الرواية وانطباعاتها على عالمنا المعاصر ، وإني أرجو ألا يطول الكلام جدًا حتى يقرأه أحدٌ ما :)

(1)
"في البدء ، كان ماكس فيبر"

يبدأ ماكس فيبر تحليله للحضارة الغربية وحداثتها - رأسماليتها تحديدًا- بسؤال هام ومركزي وهو :"ما الذي ندرسه هنا بالتحديد؟" لأنه على أي مستوىً من المستويات ، العلمي والاقتصادي واللاهوتي والفنّي ،سبقت كثير من الحضارات الحضارة الغربية ، من حيث الاكتشاف ، ومن حيث المنجزات المادية كذلك ، لكن الذي يميّز الغرب - يجيب ماكس فيبر - هو العقلانية بوصفها الإطار المؤسس لكل المنتجات الغربية .. فبالتأكيد - والكلام له - أن العلم حملته كثير من منجزات الحضارة المصرية والهندية والصينية والإسلامية ، وكانت معارف على مستوىً عالٍ جدًا ، لكن الذي يميّز العلم الغربي (كظاهرة) هو "العقلانية المنهجية" ، المنهج الرياضي والمنطق الأرسطي الذين هما إفراز للعقلانية، كما اللاهوت ، كما السياسة ، فلا شك أن لميكافيللي مثلًا أجداد ، كانوا يقولون نفس مقولته في الحضارة الصينية القديمة ، لكن لماذا ميكافيللي يمثّل "علم السياسة الغربي"؟ ، لأنه مؤسس على العقلانية التنظيمية للسياسة ولمنهجية دراستها ، في الفن كذلك ، امتازت حضارات بتراث موسيقى أعظم وأغنى من التراث الغربي مثلًا ، لكن الموسيقى الغربية ، لم تصبح كذلك إلا "بالقانون الموسيقى" والآلات الصناعية الموسيقية ، والمقطوعات المكتوبة والمصممة بدقة على ألحان معيّنة ، لأنها أصبحت شيئًا "عقلانيًا" ، وبالطبع الاقتصاد ، فالربح والسعي إليه طول الوقت كان حافزًا لكل حركات التجارة ، لكن "الربح العقلاني" أي الذي له "نظام" يسير عليه ويتوالد باستمرار ، هذه لم تنشأ إلا في الغرب - أوروبا تحديدًا - ، وكذلك "تنظيم العمل الحرّ" بوصفه مبدئًا أساسيًا للرأسمالية .. وهكذا ..
ما يعنينا من كلام فيبر هو أن "العقلانية" كانت الإطار الذي ولدت فيه ، ونشأت منه ، الحداثة الأوروبية ، والحضارة بالتالي ..
في الرواية ، يتصوّر زامياتين عالمًا انتصرت فيه "العقلانية" انتصارها النهائي ، أي يمدّ خط التاريخ ، على استقامته ، ليأخذ مفهوم العقلانية هذا إلى منتهاه .. إلى طريقه النهائي ..
عالم الرواية ، عالم مؤسس بالكامل على الرياضيات ، ليس فيه طبيعة ، وليس فيه مشاعر ، وليس فيه أي شيء إلا الرياضيات ، ومنطقها الخاص ..
تبدأ الرواية بمشهد ، يتحدّث فيه "د" - بطل الرواية - قائلًا أنهم يستعدّون بشكل حثيث لنقل السعادة الأكيدة "رياضيًا" إلى العالم الخارجي ، بعدما نجحوا في تثبيت دعائمها في العالم الأرضي ، تحت اسم الدولة الواحدة.
تعبيرات الناس في هذا العالم ، كلها تمدح من خلال الرياضيات ، فالأشياء الجميلة تمدح بأنها "خطوط مستقية" ، أو "مربعات" و"مثلثات" و"دوائر" ، أشكال منتظمة ،رياضية ، تحكمها قوانين ثابتة .. بل إن الناس أنفسهم ، الذين هم في النهاية ليسوا بشرًا بل كائنات صناعية ، يتشكلون على أشكال ، فالنساء "مثلثيات الوجه" ، والشعراء "دائريو الوجه" ، والرياضيون "مربعو الوجه" ، وكلها ذوات بعدين ، وحده فقط المحسن - قائد الدولة - "مكعّب الوجه" - أي ذو ثلاثة أبعاد ، نسير في هذا العالم .. عالم عقلاني تمامًا ، وفيه يكتب "د" مذكرّاته لنا ، نحن المتوحشّين ، ويجد في هذا صعوبة شديدة ، لأنه وبتعبيره "لم يكتب أحدٌ من قبل مذكراته لأسلافه المتوحشين" ..

(2)
"فيبر ، مرّة أخرى - التقنية والعلم بوصفهما تدميرًا للإنسان!"

وصف ماكس فيبر العقلانية الأوروبية وصفًا تراجيديًا ، حيث قال أن العقلانية الأوروبية ، بما أنتجته من بيروقراطية ، وديمقراطية ، وفردانية ، نزعت السحر عن العالم! ، وجعلته خاليًا من الأرواح والآلهة ، وهو ما يعني أن العلم وحده يحمل رؤية تفسيرية مقبولة ، لكن هذا ، في ذات الوقت ، أمر لن يملأ فراغ الناس ، حيث يقول فيبر أيضًا ، أن الناس لن تكفّ عن الاعتقاد في الآلهة والأرواح ، وأن الرواية والأسطورة سيملئان هذا الفراغ ، لكن فقط ، سيتوقفون عن تفسير الكون بهما .. هذا وفقط! ، إلى أن يظهر نيتشه! ، ليقول أن هذا النزع العقلاني للسحر - بالتحديد - هو سرّ تعاسة الحداثة وما فيها ، يقول :"الخيط الرفيع الفاصل بين السعادة الغامرة ، والتعاسة المضنية لا يكون إلا بواسطة الأشياء المتخيّلة! ، ومع تقدم العلم أكثر فأكثر ، تقل هذه المساحة شيئًا فشيئًا!"

يعلن نيشته أن الإنسان العقلاني إنسان تعيس تمامًا! ، إنسان منهك ، مستهلك ، ضائع وغائب عن هدفه .. وليس هذا وحسب ، بل هو فاقد لأهم شيء يتسّم به الإنسان "الإبداع" حيث يقول : "وحده أفقٌ مبنيٌ من الأسطورة هو الذي يحفظ لثقافة ما إبداعها وأصالتها!"

وفي عالم الرواية ، عالم منزوع من السحر ، أنتجته "البيروقراطية" التي بالضرورة هي عقلانية ، وبالضرورة أيضًا ، تفتقر لإبداع ..
يصف "د" المجتمع الذي يعيش فيه ، فيقول : كلنا نقوم بنظام واحد ، نعد عددًا معيّنًا من المرّات ، نلبس زيًَا موحدًا ، نأكل في موعد محدد بالدقيقة والثانية ، ونمارس الجنس في أوقات معيّنة بانتظام وبإذن ، وكلنا ، "نحن" ، لا يوجد "أنا" ، لا يوجد شيء اسمه أفكار ذاتية ، كلنا نمط واحد ، نعمل يوميًا باستمرار ، حتى يأتي وقت النوم ، فننام دون أي تفكير.(لو أنّك تفكّر في الدولة الفاشية حاليًا ، فاصرف تفكيرك للحظة واحدة لبيئة العمل داخل الشركات الرأسمالية ، ثم أخبرني : هلا تلاحظ أي اختلاف؟)

من الأمور التي تلقي بظلالها فكرة نزع السحر عن العالم على الرواية ، هي فكرة الاستناد إلى العقلانية كتفسير للكون ، في الرواية ، يفسّر "د" والمجتمع كله ، الكون من خلال عيون "الآلة" - التمثّل الأساسي للعقلانية - ، فالأشياء كلها توزن ب"معادلة" ، والأرقام هي أساس كل المنطق ، وهذه هي المشكلة الرئيسية للتقنية ، فهي تمدّ الإنسان ، طول الوقت ، بإحساس زائف بأن الكون "مفهوم" تمامًا ، ولذا يقول نيتشه "أفضل شيء حققته الإنسانية اليوم هي أننا لم نعد نخشى الآلهة ، ولا الحيوانات المفترسة ، ولا أحلامنا!" ..
العالم مفهوم تمامًا ، مستقر تمامًا ، "عقلاني" تمامًا ، والأمور التي لا تنتمي إلى عالم "الرياضيات" هي ببساطة "خرافات"

مشكلة التقنية الأساسية ، أنها تجعل الإنسان إنسانًا أقل من الإنسان البدائي في المهارات والقدرات والذكاء الطبيعي كذلك ، ومع ذلك يظنّ أنه أفضل منه! ، لأنه ، كما يقول نيكولاس دافيلا : "كلما تعقدّت التقنية ، كلما صار الإنسان أكثر بدائية"
وهذا طبيعي جدًا ، لأن التقنية "تستبدل وظائف الإنسان بأخرى آلية" ، فالحفظ صار مهمّة تكنولوجية ، والتفكير كذلك ، والبحث ، والحركة ، والإنسان في مكانه ، بضغطة زر ، وبلا أي مهارة مطلوبة ، ولذا ليس من المفاجئ أن تكشف الدراسات عن أن معدّل حفظ الإنسان القديم أضعاف ، وأن صحته كانت أضعاف ، وأن ذكائه كان أضعافًا مضاعفة ..
وهي فوق ذلك ، تقود الإنسان ، من حيث يشعر أنه يقودها ويتحكّم فيها ، لكنها تنظمه في نظام تكراري ، نمطي ، يكرره يوميًا ، تمامًا كـ"د" وعالم الرواية!
الفارق الأساسي هنا ، أنك تزداد بدائية ، وأنت تعتقد أن الكون مفهوم ، فتزداد غرورًا ، لتقود الأمر لكارثة أكبر

يتكلّم مارتن هايدجر عن التقنية بوصفها مصيبة حلّت بالإنسان ، لسبب أساسي ، وهي أنها تفرض نفسها على الطبيعة ، ليس بوصفها عرضًا لها ، بل بوصفها حاكمًا عليها ، وما يهم "العلم الحديث" بوصفه "منتجًا للتقنيات" هو "الإنتاج" ، ولا شيء مهم بعد ذلك ، ولذلك فهي تمثّل خطرًا على الإنسان ذاته!

من الأمور أيضًا المتعلّقة ، تمجيد "د" لـ"تيلور" ، مبتكر الإدارة العلمية ، التي تعامل البشر بوصفهم أرقام وعوامل إنتاج ، حتى أنه يقول أن فلسفته تتفوّق على "كانط" هذا الذي كان يبحث في الأخلاق والواجب والأشياء العجيبة التي لا تنتمي لعالم العقلانية والرياضيات الصارمة! ، بينما تيلور فهم الحقائق ، إلا أنه ينتقد فلسفة تيلور لأنها لم تعمم على كل نشاط بشري ، وليس فقط نشاط العمل ، لا بد أن تمتد لتشمل كل شيء كما هو في عالم الرواية!. 

(3)
"الحرب والتقنية ، كولونيالية النفط والمكننة!"

تكتشف مع قراءتك في الرواية ، أنه وفي لحظة ما ، كانت هناك حرب تسمّى حرب المائتي عام - اتسائل لماذا - ، قتل فيها 98% من سكّان الكوكب الأرضي - تمامًا - شنّتها الدولة الواحدة هذه ، لتضمن نجاة "الكوكب" من "الناس" المتوحشين!! - لا يذكرّني هذا بأي شيء ، لا يذكرني بأوروبا والاستعمار ، بالحربين العالميتين ، ولا بأمريكا ، ولا بالأسلحة النووية ، ولا بأي شيء ، إطلاقًا -
لهذه الحرب هدفان: السيطرة على موارد العالم ، وإخضاع العالم المتوحّش - الطبيعي - للقوانين الرياضية! ، وهذا هدف يستحق بالتأكيد التضحية بـ98% من سكّان العالم!
يتحدّث "د" والذي رقمه "503" عن الحرب فيقول : سبب مشاكل العالم كله يكمن في أمرين : الجوع ، والحب..
أما الجوع ، فقد طوّرنا غذاءً من النفط ، فلم نعد بحاجة إلى الطبيعة والأشياء العجيبة التي تحدث فيها ..
وأما الحب ، فكان الحل في المشاعية الجنسية! ، كل رجل من حقه أن يمارس الجنس مع أي امرأة بوصفه "إنتاجًا جنسيًا" - طبعًا بعد أن يأخذ الإذن من الدولة وفي موعده المحدّد- وبالتالي فقد قضينا على مشاكل البشرية كلها . 

الحرب ، والإبادة ، صنوان للعقلانية الأوروبية ، منذ عهد الرومان ، كما يتحدث جورجيو أجامبن في كتابه "الإنسان الحرام" عن أمثلة لهولوكوستات عديدة أجرتها أوروبا لمعارضين أو "أضداد" ، وأن تاريخ هذه الممارسات ، لم يبدأ عند هتلر ، ولم ينتهي عنده كذلك ، فما زالت الإبادات تشمل الكرة الأرضية كلها بفعل ترسانة الأسلحة الأوروبية ..
يتحدّث أيضًا زيجمونت باومان ، في كتابه "الحداثة والهولوكوست" عن إنتاج "الإبادة" ، إنتاج العملية نفسها ، تبدأ من "إنتاج اللامبالاة" ، و"نزع إنسانية الأهداف البيروقراطية" ، وهو ما يتمثّل وبشدة في الرواية ، فالدولة الواحدة ، يوميًا لديها شيء يشبه "طابور الصباح" ، فيه يتمّ تقديم عدّة "قرابين" ليتم إبادتهم بالإذابة الكهربية ، لكن يتمّ تفسير هذا على لسان "د" بقوله " ما أجمل أن تتحول من فرد ، إلى جزء من كيان الدولة الواحدة!"
وبالعكس تمامًا ، تنتج الدولة رغبة في أبنائها ، في تأييد الإبادة ، من حيث كونها "تحقيقًا لأهداف بيروقراطية" ، لدرجة أن "د" كان يتمنى أن يكون هو المصهور بالكهرباء بدلًا من أولئك وأن يضحّي بروحه في سبيل البيروقراطية ، والدولة الواحدة!

يحكي "تيموثي ميتشيل" في كتابه "ديمقراطية الكربون" عن الاستعمار والديمقراطية بوصفها نتائج لعصر الطاقة ، الفحم ، ثم البترول ، والصراع عليهما ، وبالتالي إنتاج المدينة الصناعية الغربية ، وإنتاج نظام حكمها ، الذي يضمن في الوقت ذاته للدولة والرأسمالية والتقنية التوحشّ التامّ ، دون أي مراجعة ..
ولهذا فإن مفهوم التقدّم "الذي تركّز عليه الرواية كثيرًا" هو في النهاية إنتاج للطاقة والنفط والثروات التي استلبتها أوروبا من العالم ، ولذا فهذه الرمزية في الرواية ذكية جدًا وكاشفة! ، النفط كغذاء للبشر!!

وبما أن النفط هو الغذاء ، فالقوة هي المنطق المتبّع في مثل هذه الحالات لتحديد معنى كلمة "تقدم" ، يقول نيكولاس دافيلا : "يتوقف معيار "التقدم" بين ثقافتين او عصرين في القدرة الأقوى على القتل."
وبالتالي فالإبادة هنا مفهومة جدًا ، ومبررة ، ولو كانت على حساب 98% من سكّان الكوكب! ، الموارد ، والمادة ، هي الأهم!
هنا يطرح هايدجر سؤالًا، فيقول :"ما معنى أن يوصف عصر ما من عصور البشرية بأنه عصر الطّاقة النووية؟" 

تبدأ الرواية ، برحلة نحو الفضاء لـ"استعماره" ، لكن هذا المشهد ، في 2015 بالتحديد بدا كأنه ليس من رواية ، خرج د.روبرت زوبرين ، من وكالة ناسا ، مسئول برنامج المريخ ، ليقول : سنذهب إلى المريخ من أجل ثلاثة أهداف ، الأول : العلم ، وتكلّم عن نشأة الحياة وأصلها وخلافه. ، الثاني: التحدّي ، لأن "أمتنا" لا تعيش بلا هدف لشبابها وأبنائها ، والثالث: المستقبل ، الأرض لن تحتملنا بعد اليوم ، مواردها تتناقص ، يجب أن نوسّع "نطاق الحضارة"!
نفس الصراع على الموارد ، ونفس منطق القوة ، ونفس منطق الاستعمار باسم الأمة ، لكن هذه المرّة على "المريخ"!!

(4)
ديمقراطية ، حرية ، تبدو كذلك! [التقنية ووهم الاختيار والحرية]


من الثيمات البارزة جدًا في الرواية ، هي الفاشية ، والتي يبدو لأول وهلة أنها تشبه ديستوبيا جورج أوريل ، لكن الكاتب نفسه قال أنه قصد من الكلام تضخم الدولة والتقنية أيًا كانت ، ولم يقصد أبدًا إظهار مجتمع الليبرالية فوق مجتمع الشيوعية مثلًا ، لم تكن تعنيه السياسة بقدر ما كانت يعنيه السيطرة التقنية ..
في الرواية ، يعيش المواطنون كجزء من كل ، بل ككل في كل ..
في المشهد النهائي للعبة inside يجتمع الناس في كتلة لحم واحدة ، بعدة أرجل ، بعدد البشر ، هذا المشهد بالظبط حضر إلى ذهني عندما وصف زامياتين الناس المتحرّكين تجاه أعمالهم في الصباح ، بأنهم "أرجل كثيرة في جسد واحد" تمامًا!

لكن ليس هذا هو الوصف الأهم ، الوصف الأهم كان للبشر نفسهم في هذه الدولة ، إذ يصفهم بأن اجسامهم مصنوعة بالكامل من "الزجاج" ، وأنها "شفافة" ، وأن كل ما في رؤوسهم ، يظهر للجميع!

والوصف الآخر ، أن الانتخابات تجري ، والنتيجة معروفة مسبقًا ، وبدون معارضة على الإطلاق!

وهذا أعادني لعالمنا اليوم تمامًا ، طبعًا ، لنفترض أنك قد أتيتنا من القرن التاسع عشر ، دعني أخبرك بما يشكّل ما يسمّيه الناس "حرية" ، و"ديمقراطية" اليوم ..

فاولًا ، وأخيرًا ، وفي المنتصف ، يأتي رأس المال ، الذي يتحكم في حركة "الفرد" أولًا ، والمجتمع ثانيًا ، و"الدولة ثالثًا" ، فمهما كان مرشحك في الانتخابات ، ومهما كانت قيمه ، فهو في النهاية سيخدم مصلحة طبقة لا تشارك أصلًا في الانتخابات ، أنت فقط ستنتج لهذه الطبقة مصالحها ، وستستمر بقمعك وإعادة تعريف الأشياء لصالحها. 
فوظيفة المجتمع هي إخراج "موظفين محترفين لخدمة البيروقراطية" - صورتهم في الرواية لا تبعدُ أبدًا أبدًا عن صورة موظفي الشركات اليوم ، وقد أحسن مصمم الغلاف إذ اختار 4 أشخاص متشابهين يقفون بجوار بعضهم ويرتدون بدلة رسمية! -
ووظيفة الدولة هي إنتاج "فرص عمل" لضمان توظيف هؤلاء وتوسيع قاعدة رأس المال تمامًا ..
ووظيفة كل شيء دون هذا أن يضمحل ويختفي ، لا يجب أن يوجد!
وبالتالي : أنت تظنّ أنك بالفعل حرّ ، ولكنك في الحياة ، حريّتك في النهاية هي في مساحة محدودة جدًا من حياتك ، وهذه المساحة تديرها لك "الدولة" وليس أنت ، والباقي يديره لك رأس المال!

ماذا تفعل لنا التقنية أيضًا؟ ، إنها تجعل أدمغتنا شفّافة تمامًا!

كل بياناتك ، كل معلوماتك ، تحركاتك ، أفكارك ، تعرف الشركات التقنية عنها أكثر ما تعرف انت عن نفسك ، وأكثر ما يعرف أهلك عنك!
دماغك شفّافة تمامًا!
وفي مجتمع المراقبة التقنية هذا ، كل شيء محسوب ، وكل تحكّم محسوب ، فيس بوك تنشر تجربة للتحكم في مشاعر المستخدمين بتغيير طبيعة المنشورات التي تظهر لهم ..
كامبريدج أناليتكا تستخدم بيانات الفيسبوك للتحكم في نتيجة الانتخابات (انتخابات معروفة النتيجة مسبقًا؟؟)
في كتابه The Bigness Curse يجادل لويس برانديس أن الشركات التقنية إذا تركت لنموّها ، ستمتلك قوة تمكنها من التحكّم المباشر في الناس ، وقد كتب الرجل كتابه قبل أكثر من مائة عام من اليوم الذي تطوّر فيه فيس بوك طرقًا لجعلك مدمنًا لها ، والتي تنشر فيه أبحاثًا للتحكم في أدمغة الناس ، والتي تبيع بياناتك للمعلنين ، لتجد نفسك طول الوقت "شفّاف الدماع" وتحت "تحكّم" من قوّة تقنية طوال الوقت! ، تمامًا كرواية كتبت في عام 1924 كتصوّر "سودواي" ، خيال الكتّاب فقير جدًا بالنسبة للواقع!!

في النهاية ، أصبحت كل الانتخابات في العالم ذات نتائج محددة سلفًا بالطبع ، سواء بقوة القمع التي تنتجها النيوليبرالية لخدمة مصالحها ، أو بقوة الداتا التي تملكها التقنية عنك لتتحكم فيك وتغيّر أفكارك وسلوكك ، لم تكن الفاشية هي المشكلة!

يقول نيكولاس غوميز دافيلا : "هذه الأيام، ليس الرأي العام حاصل مجموع الآراء الخاصة. بالعكس، إن الآراء الخاصة هي صدى للرأي العام."

(5)
"الهوية والذات والوعي، المرض الأخطر"

في الرواية ، لحظة انقلاب حاسمة في حياة "د" ، كان يصنّفها طول الوقت على أنها "مرض عضال" ، وهي أنه في لحظة نشأت له "ذات" ، وصارت هذه الـ"ذّات" تفكّر!! ، بشكل ما ، وصار يرى نفسه خارجًا عنها ، أي أن يده وجسمه صار "شيئًا" ، و"أداة" يتحكّم فيها ، بعد أن كان "برنامجًا" ، ليقول بعدها ، ما هذا الوعي الذاتي؟ ، ألا تعترفون معي أنه أخطر مرض على وجه الأرض؟

يستفيد نظام الحداثة من الجموع ، بشكل رهيب ، لأنها مادته الأساسية ، التي يطرقها ويثنيها ويخلق منها نظمه ويشكّلها ، لكنه في نفس الوقت يهابها إذا تحوّلت ضده ، ولذا كان لابد من إنتاج نظام لقمع الجمهور ، لكن دون تفتيه تمامًا ، وضمان بقائه يخدم مصالح الطبقات المستفيدة منه ..

فكان الحلّ "العقلاني" في "الفردانية" ، الفردانية كعملية لفصل الجماهير ، وخلق حالة اللامبالاة الاجتماعية ، وبالتالي تركّز كل خطابات الحداثة والرأسمالية على الذات ترويجًا بوصفها حرية فردية وديمقراطية وكل الكلام الجميل الذي يسبب النشوة ، لكنه في ذات الوقت يركّز على الذات بوصفها الشيء الذي يتحمّل نتيجة الفشل ، والذي يتحمّل المرض ، وكل شيء ..
وبالتالي تعيش بذات معذّبة ، تنتظر من يخبرها ما تفعل ، لأن الإحباط الفردي يأكلك ، وهذا بالظبط ما حدث مع "د" ، الذي أحسّ بثقل الذات ، أحسّ أنه "من واجبه أن يفعل" فكان يودّ التخلّص تمامًا من هذه الذّات الثقيلة ..


والجزء الثاني في الإنتاج الثقافي ، إنتاج "الشخص المتوسّط - average person " من خلال مؤسسات التعليم والإعلام ومن خلال التقنية المسيطرة والمتحكمة ، شخص يخرج يظّن في نفسه الحرية ولكنه في النهاية ذات ممسوخة ، وجدت بنظام ثابت ومحددة ، وبلا وعي ليدرك أنه يحمل في داخله ذاته التي تعي وتفهم .. يخرج ليخدم مصالح النظام ، وينضّم للجسم ذو الأرجل الكثيرة. .
في الرواية ، يتسّمى الناس بحروف وأرقام متسلسلة ، كدلالة على التشابه المطلق بين الناس في كل شيء ، وفي الوظائف التي يقومون بها ..
تركت الدولة مساحة للفردانية - في الرواية - في الأكل ، والجنس ، وهذا لا يختلف كثيرًا أبدًا عن عالم اليوم!
لأنك في النهاية تستهلك كل هذه الأمور ، لتفقدك ذاتك تمامًا ، تستهلك أكثر ، لتفقد ذاتك أكثر ، وتعيش لتعمل ، لتستهلك ، لأن هذا هو هدفك ، وهذه هي "السعادة الرياضية الأكيدة"
وتدور حياتك - تمامًا كما في الرواية - حول "العمل" و"اللذة" ، ولا أكثر ، لا يجب أن يكون هناك أكثر من هذا ..

جزء ثالث ، وهو الذوبان في الجموع ، اخترع لك السيستم جموعًا لتذوب فيها ، جموع الموظفين المتحركين صباحًا ، جماهير تهتف في وسطها في حفلة أو مباراة ، أنت تشعر انك "نحن" تماما وفي كل يوم! ، حتى عندما تظّن أن لك ذاتًا وأنك ستحتج ، اخترغوا لك احتجاجًا منظمًا ، وسيناريوهاته محددّة ، وستنصهر مرّة أخرى في الجموع ، كلكم تسعون لنفس الهدف ، بالطريقة المعدّة مسبقًا!

في فيلم zelig ، تتمثّل هذه الحالة تمامًا ، بطل الرواية مشابه تمامًا لبطل الفيلم ، يذوب في الجموع ، ويتطبّع بطبعها تمامًا ، وعندما يعود لذاته يشعر بالألم ، ويرغب في الاختفاء!
في لحظات من قصة "د" ، عندما يكتشف ذاته ، يشعر بالذنب! ، لكونه صار "مختلفًا" ، خارجًا عن منظومة الشخص المتوسط ، المواطن الصالح ..

مرّة أخرى : لم تكن المشكلة في الفاشية ،على الإطلاق.

(6)
"الحرب على الأسرة والحب والإنجاب ، المشاعية الجنسية"

ذكر "د" في بداية الكلام أن حرب المائتي عام كانت ضد "الجوع" وقد وجدنا "النفط" ، و"الحب" وكان الحل في اعتبار الجنس أداة إنتاج جنسي ، والمشاعية الجنسية ، أي العلاقات المتعددة للمرأة الواحدة ، وكذلك للرجل الواحد ، وكان يتمّ ذلك ضمن تنظيم اجتماعي بالطبع أشبه ببرامج المواعدة الموجودة في عالمنا اليوم ، حيث تحجز المرأة الرجل الذي تريده لهذه الليلة ، ويلتقيان ..
من ضمن الحرب على الحب أيضًا ، أن "الإنجاب" كان جريمة يعاقب عليها القانون ..

الأسرة ، والتي عمادها الإنجاب بالتأكيد والحصرية الجنسية للمرأة ، كيان مدمّر للحداثة ، كيان يقف متحديًا كل القيم التي تريد الحداثة ومؤسساتها ، من دولة وإعلام وتعليم ورأسمال أن تقنعك بها.
يتحدث زيجمونت باومان في كتاب "الحب السائل" عن بصمات الحداثة السائلة على الأسرة والعلاقات ، فيقول أن أول علامة على ذلك ، هو انفصال الجنس عن الإنجاب ، فالجنس "لذة" مجردة ، بلا أي مسئولية ، وبالتالي ، نتيجة لذلك ، طبيعي جدًا ان تكون العلاقات هشة ، وليس ذات روابط ، وليس هذا راجع إلى عملية الجنس نفسها ، بل إلى مفهوم الأسرة..
العمل ، الذي هو هدف الإنسان - في الرواية وفي الواقع - يعارضه بشدة وجودة أسرة ، لأن الأسرة كانت طوال التاريخ وحدة إنتاج ، تصنع اقتصادها بذاتها ، والأولاد جزء أساسي من هذا العمل ، وفضلًا عن ذلك ، فالعلاقات متوطّدة بين أفرادها بشكل قوي ، ويكتسب كلٌّ منهم وجوده من وجود الآخر ..

الآن الأسرة تحوّلت إلى محطّة اقتصادية للطفل ، حتى يصبح موظفًا ، وينضم للقافلة ، وفي نفس الوقت ، هي تمثّل عبئًا اقتصاديًا ضخمًا ، والأولاد كذلك عبء اقتصادي ضخم!

في مقابل ماذا؟ ، اللذّة؟ ، إذًا فإن المشاعية الجنسية هي الحل ، خذ لذّاتك واغرق فيها ، بلا أي مسئولية ممكنة.

إلا أن المشكلة أن حبّ الولد فطرة قوية! ، لا يمكن تحقيقها بمجرّد اللذة ، في الرواية كان الحلّ في القانون ، في عالمنا ، الحلّ كان في سياسات تحديد النسل العالمية!


سياسات التهميش من الأسرة ، وتحويلها لوحدة استهلاك محضة ، أو مفرخة "توظيف" ، ليست في الرواية ، إنها هنا والآن ، في عالمنا وفي يومنا!

(7)
"أنقذونا ، الحرب ضد التقنية"

في الرواية ، بدأت الحرب ضد العالم الحديث النفطي ، من بيت قديم في الغابة ، من العالم القديم المنبوذ ، من أناس هربوا من هذا العالم ، وعاشوا وسط الطبيعة ، وسط الطين والشجر ، وليس وسط الآلات ، ليس وسط الحشود ، وليس ضمن السيستم.
امتطوا خيولهم ، واتجهوا لهدم سور المدينة ..

إذا كنت تسألني عن الحلّ ، فإنه لا يمكن إن يكون إلا بالوقوف أمام التقنية ، التقنية التي تستعبدنا ، والتي يستخدمها رأس المال والسلطة ليتحكم فينا طوال الوقت ..

وقبل النضال ضد التقنية ، النضال ضد العلم الطبيعي ، بوصفه المنتج الأساسي للتقنية ، وبوصفه الأداة الأهم والأقوى في يد السيستم ، إما بهدف إصلاح نموذجه واستخدامه لصالح البشر والطبيعة ، ولو لم يمكن ، فبهدف إيقافه عن إنتاج ما يستعبدنا.

هذه هي حرب البشرية القادمة ، وأملها الوحيد في النجاة من سجن التقنية القاتل.

(8)
أخيرًا :

إن كنت بطلًا ، وقد قرأت كل هذا ، ولا زال لديك طاقة تسمح بالتساؤل أيضًا ، فلعلك تتسائل : هل تحتمل الرواية أصلًا كل هذا؟

في الحقيقة : هكذا رأيتها أنا ، ولعل في النهاية هي مجرد قصة جميلة لا أكثر! ، لكن هذه قراءتي أنا الشخصية ، ولا احمّلها للرواية بحال! ، لكن أن تصف رواية كتبت في العالم 1924 ، ما سيحدث تمامًا بعد قرابة المائة عام! وبهذا الغنى ، هو شيء يستحق الالتفات.

ــــــــــــ

ستّون اقتباسًا من الرواية
رابط الرواية PDF
Manage