Image title

علّق صديق ورفيق وزميل عزيز في منتدى (الحوار المتمدن) على مقالتي التي بعنوان ((الالحاد محاولة للفهم!))(*) وانتقد تركيزي على مسألة (الدوافع والجذور النفسية والشخصية) ودورها في دفع الانسان نحو طريق (الالحاد) كحل للاحتقان النفسي والغضب المتراكم بسبب التعرض للظلم أو للشر والمآسي والألم الشديد مما ينتهي إلى الاعتقاد أولًا أن الحياة ليست عادلة، وبالتالي خالق هذه الحياة ليس عادلًا وأنه غير مبال بنا!.. وثانيًا الإلحاد أي الإيمان بعدم وجود خالق للكون وأن الحياة صدفة خلقتها تفاعلات كيميائية وكهربائية وميكانيكية عمياء تحدث بالصدفة خبط عشواء (!!) وأن لا غاية لهذه الحياة المنبثقة عن المادة بمحض الصدفة العمياء العجيبة سوى البقاء والتفوق على المادة (!!) وأن هذا الحياة ظالمة وليست عادلة إذ البقاء فيها للأقوى والأذكى والأمكر والأشرس أو حتى للأجمل (!!؟؟) فضلًا عن عدم وجود تكافؤ فرص فيها أصلًا وفصلًا، لهذا وبسبب الظلم تطور بعض تلك المخلوقات البدائية المسكينة العمياء الصماء الخرساء - بمحض الصدفة العشواء ولسوء حظها - لتكون مجرد سحالي أو صراصير أو خنافس و فيروسات !!.. بينما بعضها الآخر تطور- بمحض الصدفة العمياء ولحسن حظها - لتكون بشرًا، جميل الصورة، راقي الجسم، شديد الذكاء والدهاء، تمكن بذكائه وحيلته وقدرته على التعلم والانشاء والاختراع من أن يسيطر على كوكب الأرض!... لهذا لا يمكن مع هذه الفوضى الخلاقة غير العادلة تصور وجود إله عادل رحيم خصوصًا إذا اكتشف المرء أن وُلد كمخلوق ضعيف وفقير ومضطهد ومحروم ومتعرض للمحن والآلام منذ طفولته البريئة بدون سبب منطقي معقول!!.. مما ينتهي بالنتيجة إلى الإلحاد - أي الإيمان بعدم وجود الله! .. ليقوم هذا الالحاد بدوره بالتخفيف كثيرًا من كل ذلك الاحتقان النفسي والغضب الشخصي الذي قد يصل إلى درجة كراهية الله والحقد عليه باعتباره المسؤول عن الشر والاخفاق والآلام والاحزان!... مما قد يدفع البعض حتى الدخول في ديانة (عبدة الشيطان) نكايةً في الله!!!.. فبعد استبعاد الله من تصور هذا الملحد يرتاح نفسيًا ولا يعد يجد مبررًا لحمل كل هذا الغل والحقد على هذا الاله غير العادل في قلبه وحمل كل هذا الغضب العارم في نفسه!!.. فضلًا أن بهذا الالحاد يتخلص من كل هذه القيود والالتزامات والتعليمات التي يلقيها هذا الإله علينا ويحد بها من حرياتنا الشخصية واستمتاعنا بشهواتنا بشكل طليق بعيدًا عن (المحرمات) كشرب الخمر والزنا والشذوذ الجنسي ولعب القمر والربا واتخاذ العشيقات والخليلات بدون ارتباط مقدس وترك الأبناء بدون أباء يعيشون في دور الرعاية كما لو أنهم فراخ وأطفال أنابيب !!... وهكذا فإن الالحاد في حقيقته العميقة حل لا شعوري لا واعٍ لهذه المشكلات والاحتقانات النفسية فضلًا عن عدم فهم طبيعة وجود الشر والألم والظلم في الحياة وما الحكمة من كل هذا الذي يجري؟.... هكذا كان محور مقالتي تلك والتي بلا شك لم تعجب الكثير من الرفاق والأصدقاء في منتدى الحوار المتمدن الذي أتشرف منذ عام 2008 بعضويته... وكان تعليق الرفيق العزيز كالتالي:

"الاشكالية هنا ليست بهذه البساطة التى طرحتها او تتصورها، انها اعمق واعقد من هذا بكثير، الاشكالية هنا ان اصحاب الاديان يعتمدوا على الاديان لتفسير معضلة الحياة والهدف من وجودنا وماذا سوف يحدث لنا بعد ان ننتهى من هذه الحياة؟ هل تعلم ان عدد الاديان فى العالم يجاوز الخمسة الاف دين ومعتقد، كل دين يعتقد فى نفسه انه هو الدين الحقيقى الاصلي وباقى الاديان خرافه ودجل وشعوذة، وهذه اشكالية لانهائية، اذن تعريف الاله او الخالق يختلف من عقيدة الى اخرى ولا يوجد طريقة ربانية لكى نستدل على اي اله هو الصحيح فى هذه المعمعة الالهيه!!، اذن المشكلة تقع على الخالق نفسه لانه فشل فى تعريف نفسه وتعريفنا أي دين هو السليم ونحن الان بالتالي امام معضلة صعبة لاكتشاف من هو الاله الحقيقي في هذا الوجود الغامض!؟؟.. من المستحيل بمكان ان يحدث ويرينا الله الحقيقى ذاته والتاريخ يثبت هذا على مر القرون والعهود!، لذلك انا اقول ان كثرة الاديان والعقائد واختلافها فيما بينها تضرب فكرة الاله الحقيقى فى مقتل!، والسبب هو عجزه الازلي في كشف ذاته للعباد الحائرين وتركهم يتخبطون ويختلفون ويقتلوا بعضهم البعض"(*)

***

فكان تعقيبي على تعليق الرفيق كما يلي:

 صديقي ورفيقي العزيز .. بداية ً أنا لم أبسط المسألة – مسألة ظاهرة الالحاد - بل ذهبت بها الى بُعدٍ اعمق من صورة المنطق العقلي الذي يحاول الملاحدة تبرير به موقفهم الالحادي أو المعادي لله أو للأديان، فأنا في مقالتي أو دراستي تلك ركزت النظر على أهمية دور العوامل النفسية والطباع الشخصية للفرد في الوصول للموقف الالحادي أو المعادي لله، بل إنني أعتقد أن هذا الرأي ينطبق أيضًا على المتطرفين الدينيين كما ينطبق على المتطرفين اللادينيين!.. فالجانب النفسي والمأزوم والمشحون بالغضب والإحباط في الحالتين هو دافع حقيقي عميق يدفع في اتجاه موقف متطرف إيجابي أو سلبي نحو الدين!.. ولعل هذا يفسر لنا مثلًا انتقال (ابن الراوندي/فارسي شيعي) قديمًا و(عبد الله القصيبي/عربي سني سلفي وهابي!) حديثًا من موقف متدين متشدد متطرف مصحوب بالغضب إلى موقف معادٍ للدين بل لله وهو كذلك موقف ينضح بغضب شديد يتفجر مع قعقعة عبارات كتاباتهم!.. فالعوامل النفسية والشخصية – خصوصًا الغضب والإحباط بسبب معاناة الآلام ووجود الشر والأشرار! - لها آثار على الدفع في الاتجاه الالحادي أو الاتجاه المعادي لله واتهامه بالظلم والتقصير أو حتى الاتجاه نحو الكفر بالأديان، فهؤلاء في الغالب يغلب عليهم طابع التطرف الغاضب لهذا ينتقلون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أو العكس بشكل غريب وعجيب!!.. المقصود ليس بالضرورة أن يكون الدافع نحو الالحاد – أو حتى التدين - هو البحث عن الحق والحقيقة بطريقة فلسفية عقلانية هادئة ومنطقية جدلية بل في تقديري أن أغلب من يتخذون الانحياز للموقف الالحادي او المعادي لله يفعلون ذلك تحت تأثير مواقف نفسية غاضبة مسبقة متراكمة هي التي تدفع العقل لإيجاد (مبررات منطقية شكلية) للإلحاد بل وللتمرد على الله وتحميله مسؤولية ما جرى لهم شخصيًا وما تعرض له أحبابهم من مصائب ومحن مرعبة أو ما جرى من كوارث طبيعية واجتماعية للبشر الآخرين!، فضلًا ما يحققه الالحاد للملحد من الشعور بالتحرر من تعليمات الله التي تتضمن واجبات ومحرمات دينية تثقل على النفس البشرية!.. وربما بعض هؤلاء هم من ذهب إلى موقف معاد للدولة أيضًا التي هي أخرى كالدين لها تعليمات وممنوعات قانونية تحد من الحريات الشخصية للنفس التي تنزع للحرية المطلقة والعيش على سجيتها بدون قيود ولا حدود!!...

وأما قولي بهذا البُعد النفسي العميق الذي ذهبت اليه في فهم طبيعة الالحاد وجذوره النفسية فهو قول ليس ناتجًا عن هوى ورجم بالغيب بل هو نتيجة مناقشات كثيرة لملحدين عرب وغيرهم بل وبمروري شخصيًا في بدايات شبابي بحالة من الحيرة والشكوك (!!؟؟) فهي تجربة شخصية عاينت فيها بنفسي دور الغضب والإحباط في الدفع بهذا الاتجاه الغاضب ضد الدين كدين وضد الدولة كدولة!!.. كما أن هذا الفهم أو الرأي عن طبيعة الالحاد وجذوره النفسية والشخصية انما جاء نتيجة استقراء لسيرة الكثير من الملحدين العرب وغيرهم وعلى رأسهم (ابن الراوندي قديمًا، وعبد الله القصيمي حديثًا).. فالاحتقان النفسي والغضب الشخصي الحاد في إلحاد هذين الرجلين كان حاضرًا وواضحًا بقوة سواء في تطرفهم الديني ثم في تطرفهم الإلحادي اللاديني (!!) فهذا أمر واضح جلي لكل من يتأمل سيرة حياتهما وسيرة غيرهم من الملاحدة!.. فقد لمست بصورة مكررة (الجذور النفسية وطباع الشخصية) لمعاداة الله أو الاديان او حتى الالحاد في كثير من الملحدين أو المعادين لله أو للدين، ولا تبقى إلا فئة قليلة وربما النادرة من هؤلاء الملاحدة المفكرين والفلاسفة الذين اتخذوا الموقف الالحادي على أساس فلسفي وفكري هادئ محض، إما بسبب إيمانهم بصحة النظريات (العلمية) عن نشأة وتطور الكون أو عن نشأة وتطور الحياة على الأرض مع أن هذه النظريات – حتى إذا صحت وأصبحت حقائق علمية وليست نظريات وحسب – لا تتناقض مع فرضية وجود الله الخالق، فقد تكون حكمته ومشيئته اقتضت أن يخلق الكون والحياة بطريق التطور التدريجي ابتداءً من ((الانفجار أو الانفلاق العظيم)) وخلق البشر عبر سلسلة من التطورات البسيطة فالمعقدة عبر القرون، الأمر الذي قد يبدو لبعضنا أنه أمر غريب يتناقض مع فكرة أن الله على كل شيء قدير وأنه كما في القرآن إذا أراد شيئًا إنما يقول له (كن) فيكون!!.. فكيف احتاج الله لكل هذه البلايين من السنين كي يخلق الكون ثم ملايين السنين ليخلق الحياة ويبثها في ذلك المستحلب الطيني ثم يستخرج منها الأنواع في سلسلة من التطور الذي استغرق ملايين السنين!!؟؟.. أليس هذا دليل على أنه يعاني من عجز ما في قدرته وأن قدرته غير كاملة وغير سريعة بما يكفي؟؟؟ وإلا كيف احتاج لكل هذا الدهر لخلق الكون والحياة وانسان ناطق وذكي ومفكر مثلنا!؟؟...

***

وجواب هذه الاشكالية بسيط لمن يعرف نظرية النسبية لآنشتاين والتي تؤكد على أن الزمن ليس شيئًا مطلقًا بل هو نسبي ليس ثابتًا بل هو متغير!! .. الزمن جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة الكونية وبالتالي فهو مخلوق وليس بقديم كالله الخالق!.. فالله الخالق خارج نطاق الزمان والمكان، لهذا حينما يقول (كن) فإن الشيء يكون بالفعل في عين اللحظة التي أراد الله فيها الله تكوين هذا الشيء أو هذا الحدث والقدر!.. لكن بالنسبة لنا نحن البشر، كمخلوقين وجزءٍ من المنظومة المكانية المادية والزمانية للكون، فإن هذا الشيء أو الحدث سيبدو لنا  – بسبب تكويننا الزمني ومن موقعنا في الكون وبالقياس لزماننا الأرضي والبشري البسيط والضئيل – كما لو أنه يحدث بشكل بطيءٍ جدًا ويستغرق ملايين أو بلايين السنين!!... فإذا فهمنا نظرية النسبية فهمنا وحللنا هذه الإشكالية المتعلقة بالزمن الذي استغرقه خلق الله للكون والحياة والانسان!.. فهو بالنسبة لله (كن) فكان على الفور لأن لا زمان لله، أما بالنسبة لنا نحن البشر كجزء من منظومة الزمن الأرضي والكوني والبشري فقد حدث ما حدث على أحقاب طويلة جدًا !!..... وقس على هذه المسألة فإن الشكوك التي قد تعتري بعض البشر حول وجود الله أو قدرته أو عدالته ورحمته وحكمته هي ما تدفعهم لطرح هذه المسألة الكبيرة والمشروعة - ربما بحكم طبيعة العقل الجدلية والفضولية المتعطشة لمعرفة كل شيء! – ومع ذلك وبالرغم من هذه الشكوك الطارئة فإن الغالب في الناس منذ القدم حتى يوم الناس هذا أنهم مؤمنون بالغيب وبوجود الله الخالق بالفطرة والسليقة أو بتعبير أدق هم يُسلمون بوجود الخالق ويعتبرون ذلك من البديهيات والمسلمات العقلية الأولى!، أما الملحدون فهم لا يشكلون نسبة كبيرة بالقياس لعدد المؤمنين بالصانع في العالم، وبغض النظر عن مسألة توحيد المؤمنين بالغيب لله وافرادهم له بالألوهية أم لا؟ فإن أغلب الناس مؤمنين بالله أي بوجود خالق للكون وهؤلاء حسب بعض الدرسات يبلغون ما يقارب 90% من البشر اليوم!!..... وهكذا فإن هذه الأسئلة الكبيرة والمحيرة بالفعل قد يعلق فيها العقل كما تعلق قدميك في الوحل أو الرمال المتحركة فلا تتمكن التخلص من قبضتها بسهولة خصوصًا إذا تعمقت وتوغلت في تلك الرمال المتحركة بدافع الفضول والاكتشاف!.. أسئلة حائرة ومحيرة لا تنتهي كالسؤال السابق ذكره عن إشكالية الزمن في الخلق التطوري أو تطوير الخلق وهل الله كان يحتاج لكل ذلك الزمن الدهري المهول لكي ينجز خلق الكون والحياة والانسان!؟.. وغير هذا من الأسئلة التي يطرحها العقل الجدلي لبعض الناس ثم إذا لم يستطيعوا الإجابة عنها، بشكل مُقنع لهم وكاف وشاف يزيل عن قلوبهم الشكوك، فإنهم سيظلون عالقين فيها ومعلقين في الهواء يتأرجحون بين الاعتراف بوجود الله وبين عدم الاعتراف به كبندول الساعة أو الارجوحة!، أو قد يحسموا موقفهم فيختارون الالحاد دينًا وعقيدة ومنهج حياة بل وكحل مريح لكل هذا اللغز الخطير والمحير وكل هذا الصداع الذي لا ينتهي فضلًا عن التخلص من قصة التكاليف والواجبات والمحرمات الدينية!، والانسان بطبيعته النفسية المحبة للحرية يكره مثل هذه التكاليف ويود لو يعيش حرًا بلا قيود ودون حدود!! ...... وهؤلاء الفلاسفة والمفكرون والباحثون الجادون عن حقيقة الوجود وحقيقة الخلق قلة جدًا بالقياس لغيرهم من الملاحدة الغاضبين المعادين لله والأديان تحت تأثير قضية ومشكلة وجود الشر وعدم المساواة بين الخلائق والبشر في الأرض وهذه ((الحياة غير العادلة الخالية من المساواة وتكافؤ الفرص!)) وبالتالي النقمة على هذا الاله الخالق الذي خلق هذه الحياة بهذه الطريقة غير العادلة بزعمهم! .. فضلًا عن النقمة على رجال الدين أو حتى على ذويهم المتدينين المتشددين الذين زرعوا الكراهية في قلوبهم للدين ورب هذا الدين بتنطعهم الديني وممارسة التسلط عليهم باسم الله وباسم الدين!.. وهو واقع مرير حدث ويحدث بالفعل في المجتمعات المتدينة وهو أمر مشين ومهين بالفعل بل ومفسد للدنيا والدين على السواء!..

فالمسألة – إذن – وبنظرة عميقة تتجاوز قضية المنطق الفلسفي - ليست مسألة فلسفة ومنطق بطريقة ((1+1=2 اذن الله غير موجود !!)) وإلا لسهل التعامل معها بطريقة أبي الفلاسفة (سقراط)!!.. المسألة ليست بهذه البساطة بل هي أعمق من ذلك بكثير ولهذا لابد عن دراسة ظاهرة الالحاد بشكل علمي موضوعي من التطرق لهذا الجانب المهم والكبير، أي الجانب النفسي والطابع الشخصي للمُلحد ودور الغضب والإحباط وتراكم الاحتقان في هذا الموقف الغاضب والعدمي!.

***

وأما مسألة تعدد الآلهة التي يؤمن بها بعض المؤمنين بالغيب وتناقض الأديان حتى في توصيف وتعريف صفات الله الخالق، وما قد يخلقه من حيرة للإنسان فلا يدري أين هو الدين الحق وسط كل هذا الركام الهائل من المعتقدات والشرائع !!؟.. فهذا جزء من هذا الاختبار الوجودي الصعب والخطير، أقصد أن تجد نفسك بعقلك وسط بحر متلاطم الأمواج يموج بالتناقضات، يعج بالأفكار والفلسفات والديانات والضلالات والمذاهب والطوائف المتضاربة، حيث يجب عليك أن تفكر وتبحث كما فعل (الفتى إبراهيم) – قبل أن يُصبح نبيًا - والذي وُلد ووُجد في بيئة اجتماعية وثقافية دينية تقوم على الوثنية تعبد الأصنام والكواكب والنجوم والشمس والقمر مع الله (الخالق)!! أو تعتبرها شفعاء ووزراء له أو تعتقد أن الملائكة بنات وأبناء الله ومن ثم يجب عبادتهم تقربًا لله!! ، وبالرغم من كل هذه المعتقدات الوثنية وبالرغم من أنه (فتى) فقد شق طريقه وسط كل هذا الواقع الوثني الثقيل الذي يعج بالآلهة  بعقله من خلال التفكر والتدبر في خلق السموات والأرض حتى عرف أن ربه والهه الحق هو الذي خلقه وليست هذه الكواكب والنجوم والأوثان التي يعبدها قومه ويجعلونها شريكة لله! .. لقد كان ذاك (الفتى) المفكر المتدبر صادقًا ومخلصًا في رغبته الجادة لمعرفة الحقيقة والبحث عن الحق وسط كل تلك المعتقدات المتناقضة التي وجد العالم يعج بها من حوله!... وتوصل للدين الفطري البسيط الذي يمكن أن يقبله الله تعالى من كل انسان وهو يتمثل في أمرين:

الأول : أمر اعتقادي يتمثل في توحيد الله (الخالق) ويعني الإيمان بوحدانية الله الخالق وأنه لا إله غيره في الكون.

والأمر الثاني: أمر سلوكي أخلاقي يتمثل في العدل والاستقامة!.

فمن يلتزم بهذين الأمرين فهو على الدين الحق الفطري الكوني البسيط حتى لو لم يدخل في الأديان السماوية التي تشوهت بالإضافات والشروحات التي اخترعها رجال الدين والتي عقَّدت هذا الدين الفطري الكوني البسيط الذي كان عليه الفتى إبراهيم - الأب الروحي فيما بعد لكل الديانات السماوية الابراهيمية أي اليهودية والنصرانية والاسلام!...

فهذا (الدين العقلي الفطري الكوني البسيط) بهذا التدين الاعتقادي والاخلاقي هو الحد الأساسي والادني الذي سيقبله الله من كل انسان إذا لم يعرف يختار من بين كل هذا الركام الهائل من الكتب والطرق والفرق والطوائف الدينية (الانشطارية) ووسط غبار صراع الاديان!.. فهل من التعقيد بمكان أن يعرف المرء بعقله أن للكون خالقًا وأن هذا الخالق هو الاله الحق لا اله غيره ثم يستقم في سلوكه الأخلاقي ويكون صادقًا وأمينًا وعادلًا وبرًا بوالديه؟؟؟.. وربما مع هذين الأمرين الأساسيين في الدين الكوني البسيط تحاول اجراء ((اتصالات هاتفية روحية)) بهذا الإله الخالق من خلال المناجاة والدعاء!... بمعنى أن تتحدث معه وتطلب منه مساعدتك على الاستقامة الأخلاقية وعلى معرفة كل ما يحبه ويرضاه من الاقوال والأفعال أو حتى يريك الدين الحق من بين كل هذه الأاديان التي تتناطح فيما بينها وداخلها تتناطح الطوائف والمذاهب، وكل حزب منهم بما لديهم فرحون!.. هل هذا صعب!؟؟.. لا اعتقد!.. لهذا أخشى هنا أن حُجة (مشكلة تعدد واختلاف الأديان) التي يستند اليها البعض ليعفي نفسه من مسؤلية البحث والتنقيب عن الدين الحق انما هي ((حجة هروبية)) فقط، الغرض منها اعفاء العقل من معرفة الدين البسيط الذي يقبله الله من كل انسان وهو يتمثل في معرفة أنه هو خالق الكون ثم توحيده والاستقامة في السلوك ثم محاولة الاتصال به بشكل مباشر بدون وسطاء من خلال المناجاة والدعاء:

((ربي خالقي!، هل تسمعني!؟ هل أنت هنا بالفعل!؟ أرجوك إن كنت تسمعني فساعدني!.. دلني على الطريق!.. فأنت يا من خلقت كل هذا الكون وأوجدتني من لا شيء تملك من المعرفة والقدرة ما لا أملك، فساعدني كي أفهم وكي استقيم))!....

هل هذا (الدين الكوني الفطري البسيط) صعب جدًا!؟، خصوصًا وأن الايمان الحقيقي بالله ليس مسألة نظرية وحسب بل لتتعرف بالله عن قرب وملاحظة وتجربة يجب أن تدخل معه في ((علاقة شخصية مباشرة))، علاقة تبدأ بمحاولة الاتصال به من خلال المناجاة والدعاء والهمس وابداء الرغبة في معرفة الحق وفهم الحقيقة!!؟.. فمعرفة هذا الدين الكوني الفطري الأساسي البسيط والالتزام به هو لب هذا الاختبار الوجودي الكبير والخطير!.. هذا الاختبار النظري والعملي (التجريبي) الذي يستحق عليه من نجحوا فيه، الخلود في الجنة لأنه يكون بهذا الدين الكوني الفطري مهيئًا وصالحًا للعيش في عالم طاهر راق دون غير ممن اداروا ظهورهم وزعموا أن الاختيار بين كل هذه الأديان أمر صعب بل مستحيل وفقدوا البوصلة السليمة للفطرة وتاهوا وسط صحراء قاحلة ممتدة بدون نهاية لا ماء فيها ولا ظل ولا طعام!... مع أن المطلوب منهم - إذا عجزوا عن فهم ما جاء به الرُسل أو معرفة الدين الصحيح من بين كل هذه الأديان - بسبب الغبش الذي تسبب فيه رجال الدين بتفسيراتهم للنصوص والمتدينين بسلوكهم المتعصب أو المتناقض المشوه للدين - هو فقط هذا الدين الكوني الفطري البسيط الذي ذكرناه!، أي يكون المرء مؤمنًا بوجود الله موحدًا له مستقيما في سلوكه مع الآخرين محاولًا الاتصال به بالمناجاة المباشرة والحديث معه كما فعل الفتى (ابراهام/ابراهيم)!!.. هذا هو الدين الكوني والعالمي والفطري، فمن جاء به سينجو حتمًا في الحياة الآخرة.

***

إن هذا الاختبار الوجودي الذي نعيش فيه في الدنيا بوقته المحدود جدًا بالقياس إلى أعمار كل فرد منا هو اختبار مزدوج، فهو اختبار للعقل لمعرفة الحق والحقيقة ولو في حدها الادنى البسيط المتمثل في ملة ودين الفتى ابراهيم! ((إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ))، واختبار للقلب لمحبة الحق والعدل والفضيلة والتمسك بالاستقامة والصبر على تكاليفها ومحاولة تطهير النفس وتهذيبها والارتقاء بها عن غرائز الحيوان الأناني الذكي!.

***

السؤال هنا: هل بذل هؤلاء الأخوة الملحدون أو المعادون لله وللأديان جهدًا كافيًا لمعرفة الحق والحقيقة وسط كل هذه التناقضات والضلالات التي تملأ العالم!؟ ووسط كل هذه الأسئلة الفلسفية الجدلية التي لا تنتهي!؟.. هل حاولوا ان يشقوا طريقهم وسط هذا الركام الهائل بعقولهم وقلوبهم للفوز بالحقيقة والحق والمعرفة الصحيحة بهذا الدين البسيط والكافي للفوز في الآخرة!؟.. أم أن اغلبهم كان يعاني من احتقانات نفسية متراكمة وازمات شخصية غاضبة مسبقة – مع الله ومع الدين ورجال الدين والمتدينين الموتورين غير المستقيمين - حتى قبل اتخاذ قرار موقفهم الالحادي؟؟.. هذه الاحتقانات النفسية الغاضبة التي وجدت المتنفس الوحيد لها في صب جام غضبها على الله وتحميله مسؤولية الشر والفقر والبؤس والظلم الواقع في الحياة بل وحتى ربما تحميل فشلهم الشخصي في العمل وفي تحقيق طموحاتهم وفي تحسين أحوالهم المعيشية أو حتى في تجاربهم العاطفية الفاشلة، فيتهمون الله بما جرى لهم وأنه هو من الحق به الضرر والأذى والشر والشقاء!.. ولسان أنفسهم الناقمة المشحونة بكمية هائلة من الغضب والإحباط يقول لله وخالق هذا الكون وموجد هذه الحياة: ((كله منك!؟.. أنت السبب!!)) ... لهذا اعتقد أن الكثير منهم اختار الطريق الاسهل وهو أما صب جام غضبهم على الله وتحميله المسؤولية عن الشرور في الارض أو ما لحق بهم شخصيًا.. أو ادارة ظهورهم له كأنه غير موجود، خصوصًا ان الله والاديان تقيد حرياتهم الشخصية في امور تتعلق بالشهوات الحيوانية والانانية!! .. بينما النفس البشرية، بطبيعتها، لا تحب القيود والواجبات والمحرمات!!، فالإنسان مجبول على حب الحرية المطلقة وقد يغضب ممن يحد من حريته الطبيعية تلك كما يغضب المراهق من الضوابط والتعليمات التي يفرضها عليه أبوه في المنزل كتحديد وقت عودته للبيت أو وقت نومه أو وقت لعبه بأجهزة الألعاب الالكترونية!.. أو تكليفه بأداء بعض الواجبات المنزلية كتنظيف غرفته!.. فيشعر بالحنق والغيظ ويعتبر ذلك تدخلًا سافرًا في شؤونه بل يعتبره ظلمًا وتسلطًا وقع عليه من قبل أبيه (المتسلط!) ويصرخ أحيانًا في تأفف وغضب وسخط (Dad, it's not fair!)(إنه أمر غير عادل يا أبي!).. مع أن تلك الضوابط والتعاليم الأبوية ما فرضها الاب الا من أجل المحافظة على سلامة ابنه ومساعدته في ضبط نفسه وسلوكه وتعويده على الالتزام والانضباط كمنهج حياة، لأن الالتزام والانضباط هو أساس النجاح في الحياة وهو الخطوة الأولى نحو الارتقاء بتصرفاته والاستفادة من أوقاته وتنظيم أمور حياته بل ولحمايته من الانحراف والانجراف في سلوكيات مدمرة كتناول الكحول والتدخين بل والمخدرات أو الانخراط في العصابات الاجرامية أو الجماعات الإرهابية أو الجماعات غريبة الأطوار!!، هكذا حال بعض الناس مع الله، فهم يشعرون نحوه بالضيق الشديد لأنه يحد من حريتهم الشخصية ويأمرهم بالانضباط خصوصًا فيما يتعلق بالشهوات والغرائز الحيوانية والانانية فكأنما هذا الملحد المتمرد على الله يقول له: (دعني  أفعل!.. دعني أمر!).. كما لو أنه يرفع رأسه للسماء ويقول لله في غضب وسخرية وربما بشيءٍ من التحدي الممزوج بالغرور: ((انت خلقتني بهذه الطبيعة الشهوانية والغرائز الأنانية والحيوانية !! ثم تأتي الآن لتأمرني بأن أضبط نفسي وامتنع عن اشباع شهواتي!!؟؟ ما هذا العبث!!؟؟ دعني وشأني!، فأنا حر!!)) .. هكذا يقول لسان حال الكثير من الملحدين الذين قد يعترف بعضهم بوجود الخالق ولكنهم لا يعترفون بعدالته ورحمته وقدرته وحكمته الظاهرة والخفية ولا يعرفون أنه بحكمته الفائقة التي لا تقدر عقولنا  المحدودة الطاقات والمعلومات على استيعابها والاحاطة بها بشكل كامل شامل أنه ما جعل الحياة الدنيا  بهذه الصورة (الشائكة والملتبسة الغريبة) إلا لأن هذه الأجواء هي الأنسب لاختبار (معادن) البشر والتمييز والفرز بين المعدن النفيس والمعدن الخسيس وما بينهما من معادن تقترب لهذا أو لذاك!!..  هذا المعمل الأرضي الرهيب الذي  يختلط فيه الحق بالباطل، والخير بالشر، واللذة بالألم، والنور بالظلام، والجمال بالقبح، والسلام بالحرب، والاطمئنان بالخوف، والسرور بالحزن، والكسب بالخسارة، والفضيلة بالرذيلة، والعدالة بالظلم، والرضى بالغضب، والحلاوة بالمرارة!!....الخ .. فيعتقدون بسبب هذا الالتباس وهذا الاختلاط وهذا التدافع بين كل هذه القوى أن خالق الدنيا اله ظالم وعابث!، وأنه لم يخلق الناس متساويين وأنه لم يزل الشر بشكل نهائي من الدنيا ولم يقضِ على كل هؤلاء الأشرار والذئاب البشرية الذين يفتكون بالحملان البريئة المسكينة!!!، هكذا يتفلسفون على الله ويريدون أن يعلموه كيف ينبغي أن يدير هذا العالم على طريقتهم وحسب فلسفتهم!!.. وهم لن يفهموا حكمة الله ما لم يفهموا أن الدنيا تجربة مصيرية خطيرة ورحلة شاقة وأنها ليست دار قرار بل دار اختبار!.. بل وقد يختار بعضهم في لحظة حقد على الله – ربما بسبب ما تعرض له شخصيًا من بؤس وألم وفقدان وحرمان أو بعدم فهمه لمعنى وسبب وجود الشر في العالم - أن يفعل ما يغيظ الله كأن يعبد الشيطان – عدو الله وعدوه! – ليس عن قناعة بأنه إله حقيقي جدير بالعبادة بل من باب الانتقام والتشفي والنكاية في الله!.. ((لقد تركتك وهجرتك كما تركتني وهجرتني!، وانضممت لصفوف عدوك الأول الذي قاد أول تمرد عليك!))..  وهكذا - بعد أن كان يستحلف الآخرين ويستعطفهم بالله كأقدس شيء عنده فيقول لهم: (بحق الله!) - يصبح يستحلفهم ويستعطفهم بقوله: (بحق الشيطان!!).. وأي حق للشيطان على الانسان!!؟؟... إذن فالطريق السهل في كل هذه المعمعة الدنيوية الملتبسة المتذبذبة وهذه التجربة الوجودية الفردانية الصعبة والشائكة والتي تتطلب تضحيات ببعض شهوات النفس بل وتتطلب مجاهدة لهذه النفس وغرائزها الحيوانية والأنانية هو ان تدير ظهرك لكل هذه المعركة الوجودية المصيرية وتنكر صحتها وتقول: ((لا اله والحياة مادة والحياة صدفة، وحتى مع فرضية وجود خالق فهو أولًا خالق ظالم عابث لا يبالي بآلامنا.. وثانيًا لا امكانية لكي نعرف أيًا من كل هذه الأديان المنتسبة إليه هو الدين الحق الذي يريد منا الالتزام به؟.. وبالتالي دعوني من كل هذا الصداع!.. دعوني استمتع بعمري المحدود على قد ما أستطيع قبل أن يفوتني القطار وقبل أن يداهمني الموت بسيف الفناء والاندثار)) !!؟؟

لكن صاحب هذا الموقف السلبي الهروبي لا يعي أن المشكلة ليست في الموت إنما في ما بعد الموت!!.. فلو كان الموت نهاية بالفعل ولا بعث بعدها فلا مشكلة إذن عندها، لأنه لن تكون هنالك محاسبة شديدة ودقيقة قد تنتهي بالكثير من الناس بالعيش في الجحيم إلى الأبد، بدون نهاية!!، حكم بالأعمال الشاقة المؤبدة بكل معنى الكلمة وليس 25 عام فقط!، والجحيم ليس مجرد نار تشوي أجسام الناس كما لو أنهم ((دجاج محمر)) يتم شيهم على ماكينة شواء بالغاز كما يتصور البعض!، إنما هي شكل من أشكال الحياة الحقيقية والوجودية الرهيبة الأليمة والمظلمة!.. حياة ألم ورعب مستمر كما لو أنك محكوم عليك بالأعمال الشاقة المؤبدة ودون أن تموت إلى درجة يصبح معها الحكم بالإعدام هو أعز وأغلى حلم لديك (يا ليتني كنتُ ترابًا !!)!!!...

اليوم يمكنك تتهم الله بالفشل!، الفشل في إدارة الحياة بشكل عادل يحقق المساواة التامة بين البشر !، وربما حتى غياب العدل حتى في توزيع الرزق والفرص بين الحيوانات بشكل كامل وتام!!.. فالفأر يقول لماذا خلقتني فارًا والحمار يقول لماذا خلقتني حمارًا؟؟!!... ويمكنك أن تتهمه وأنت تلعب دور (وكيل النيابة) مسؤولية الفشل والعجز عن التعريف عن نفسه بشكل كافٍ وافٍ صافٍ بدون كلمات متقاطعة وألغاز وأن يصل بلاغه لكل الناس (مدينة مدينة، وشارع شارع، وبيت بيت، ودار دار، وفرد فرد)(!!) وأنه كان يفترض عليه أن يجعلنا نرى الملائكة رأي العين ونسمع منهم مباشرة أو يظهر لنا هو ذاته جهرًا حتى نؤمن منه!!.. يمكنك أن تتهم الله بكل هذه التهم وأنت تصرخ وتلعلع في ساحة المحكمة العقلية بجذورها النفسية متهكمًا من هذا الإله (المختبئ) الذي يريد منا البحث عنه واكتشافه للفوز بالجائزة التي أعدها للناجحين والنجاة من العقاب الذي أعده للفاشلين أو الرافضين الانخراط في هذه اللعبة أصلًا !!.. يمكنك أن تسخر وتستهزئ بالله ورسله وكتبه وتقول وأنت ترفع حاجبيك في خبث ساخرًا : (( ما هذا الكلام الفارغ!!؟؟)) ... كل هذا بوسعك القيام به كما يمكنك أن تقدم لائحة من الشروط والمطالب والتحديات لله التي تجعلها شرطًا للإيمان به وإلا فلا !!.. كل هذه المطالب والشروط التي في حقيقتها لا تتسق مع حكمة الله الخالق ومخططه من خلق الانسان واستعماره للأرض بغرض اختبار البشر ثم فرزهم بين كائنات تصلح للعيش في عالم النعيم الأبدي وكائنات لا تصلح للعيش إلا في عالم الجحيم مع الأبالسة والشياطين!!..  والحقيقة أنه لو فعل الله ذلك أي أرسل لكل منا ملاك يكلمه ويقول له أن الله حق وأن البعث حق وأن الحساب حق أو يظهر لنا بنفسه جهرة فإن الأمر عندها لا يحتاج إلى (الإيمان) إذ الإيمان يتعلق بشيء غائب عن الحواس ولكن يمكن معرفته إما بـ(العقل) أو بـ(الرسل) من البشر الذين يختارهم الله ليخبرونا الحقيقة الوجودية الكبرى ثم يرحلون!... بل ما هو الضمان أن هؤلاء حتى مع ظهور الملائكة سيؤمنون بالله!!... فلربما قالوا : (( إنما هي هلوسات بصرية وسمعية حدثت لنا)) أو في احسن الأحوال سيقول قائلهم: (( هذه كائنات فضائية تحاول غزو الأرض وتدعي أنها ملائكة لتخدعنا!.. فلا تصدقوها يا قوم !.. واطلقوا عليها الرصاص!!))... وما جعلنا نقول هذا هو أن الله بالفعل قد أرسل الرسل وأعطى بعضهم معجزات خارقة للعادة وأعطى (عيسى ابن مريم) مثلًا قدرات غير مسبوقة فجعله مثلًا يتكلم وهو في المهد!.. وجعله يُبرى بعض الامراض بشكل فوري والناس ينظرون في استغراب بل يصنع تمثالًا من الطين على هيئة الطير ثم ينفخ فيه بفمه فيُصبح طيرًا حقيقيًا يطير بجناحيه بإذن الله!!.. بل وفوق هذا جعله يحيي الموتى بإذن الله فإذا بهؤلاء الموتى ينهضون من قبورهم وهم يمشون ويتكلمون!.. فهل أدت تلك المعجزات وخوارق العادات إلى اقناع الآخرين بأن المسيح ابن مريم نبي ورسول من عند الله!!؟؟.... لا !.. بل قالوا عنه ساحر ومشعوذ ومجدف وعملوا على تحريض السلطان الزماني ضده حتى تمكنوا من استصدار حكم بإعدامه صلبًا!!.... الشاهد أن الله أعطى بعض رسله آيات حسية كثيرة تدخل ضمن المعجزات وخوارق العادات الكونية الطبيعية ولكن بدون جدوى!!.

***

يمكنك اليوم ان ترفض كل هذا وتعتبره مجرد هراء واساطير الأولين أو تعترف بوجود الخالق لكنك تتهمه بالتقصير في حقك شخصيًا وحق البشر وخصوصًا البؤساء والطبقات الكادحة!.. ولكن في المقابل إذا صح أننا سنبعث بعد الموت للمحاسبة والفرز بين المؤمنين بوجود الله ووحدانيته والمؤمنين بعدم وجوده أو بعدم وحدانيته فعندها قد تنقلب الأمور عليك وتجد نفسك عندها متهمًا بالتقصير في عدم بذل الجهد الكافي والصادق - أثناء حياتك الدنيا - في التعرف على الحق والحقيقة ومعرفة من خلق هذا الوجود وفحص كل الاديان الموجودة والاختيار من بينها بعقلك على خلاصة الحق إذا كنت تملك الوقت والقدرة العقلية أو على الأقل تصل للدين الكوني الفطري البسيط الذي شعاره كلمتين: (آمن بالله وحده ثم استقم!) ثم تحاول الاتصال بخالق الكون وخالقك هاتفيًا!، أي عن طريق الهتاف الخافت بالمناجاة والدعاء طلبًا للمساعدة والهداية والرعاية!.. فأنت امتنعت عن محاولة معرفة الحق والحقيقة بالتفكير العقلي وكذلك بالتجريب العملي على السواء وأدرت ظهرك لكل هذه المسألة وانهمكت في اللعب واللهو والاستمتاع بشهواتك ووقتك مدعيًا أن تعدد واختلاف الأديان جعلك في متاهة لا تعرف من خلالها أين الدين الحق!!؟؟ مع أن اختلاف الفلسفات والايديولوجيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتعددها وتناقضها لم يمنعك من الاصطفاف لأحداها والتعصب لها لتصبح ليبراليًا أو شيوعيًا أو قوميًا أو اشتراكيًا أو رأسماليًا ...الخ ... لماذا لم تترك كل هذه الأيديولوجيات المتناقضة المتصارعة بحجة أنها متعددة ومختلفة وكل منها (يدعى وصلًا بليلي، وليلى لا تقر لهم بذاك!!)؟؟... فلو بذلت جهدًا عقليًا كما بذل الفتى إبراهيم في معرفة ذلك الدين الكوني الفطري البسيط لنجوت !.. أي أن (تؤمن بوحدانية الله وتستقيم على الاخلاق الطيبة) فهذا - والله - كان يكفيك إذا اتخذته دينًا بصدق واخلاص بل وهو ينجيك يوم القيامة إذا حِرتَ في معرفة الدين الحق والنبي الأحق بالاتباع بين كل هذه الأديان وكل هؤلاء الانبياء أو أدعياء النبوة!!...

أجل!.. يمكنك اليوم ان تتهم الله اليوم بالتقصير في تعريفنا بنفسه ودينه الحق المقبول لديه لأنه لم يبعث لكل منا ملاكًا  بشكل مباشر نراه رأي العين ليخبرنا برسالة الله!، ولكنك قد تكتشف لاحقًا أنك انت المقصر الذي لم يأخذ مسألة هذه المعركة الوجودية الفردية المصيرية بالجدية الكافية لمعرفة الحق والحقيقة وعندها قد تجد نفسك مدان في موقف لا تملك حياله أي سلطان سوى أن تدفع فاتورة التقصير وأنت تحصد أشواك الندم حيث لا ينفع الندم!!، وتقصيرك هنا ليس تقصيرًا في حق الله، فالله غني بنفسه لا يحتاج لعبادتنا وركوعنا وسجودنا له، انما هو تقصير منك في حق نفسك!.. نفسك التي ستكون بإلحادك ورفضك لله قد أوردتها الهلاك والعذاب الأبدي والحرمان من النعيم الابدي في الحياة الأخرى، ماذا تراك ستفعل اذا اتضح لك لحظة الموت أن انكارك لوجود الله والبعث والحساب والخلود اما في النعيم أو الجحيم كان خطأً قاتلًا مدمرًا لا يمكن تصحيحه ولا اصلاحه لأن الفرصة كانت واحدة ومضت وانتهت وضاعت منك إلى الأبد !!؟؟ .. ترى ماذا سأخسر أنا (المؤمن بالله الخالق وبوحدانيته وعدالته وحكمته ورحمته، المُحاول أن يكون مستقيمًا في سلوكه مع الآخرين) إن اتضح أنك انت من كان على حق حيث لا وجود لله والبعث والآخرة والحساب وأنه لا ثم شيء غير الموت ثم العدم؟؟؟ وكم سيكون – يا تُرى - حجم خسارتي!؟ .. ماذا سأخسر على وجه التحديد!!؟؟؟... وفي المقابل ماذا لو اتضح العكس!؟ أعني لو اتضح انني أنا من كان على حق بإيماني بالله والأخرة ومحاولة الاستقامة وأنك انت المخطئ؟؟ فماذا ستخسر انت عندها وكم سيكون حجم خسارتك!!؟؟ من منا الذي يغامر بنفسه وسعادته ؟؟ ومن منا حجم (المخاطر) في عقيدته أكبر؟؟؟ .. هذه هو السؤال المهم والكبير والخطير .... صدقني أنا لن أخسر شيئًا، فأنا – بمعية إيماني بالله والحياة الأخرى - تمتعت بحياتي وأخذت نصيبي من الدنيا، فإذا كان ما بعد الموت عدم ولا شيء فلن اخسر شيئًا!!.. ماذا سأخسر!!؟؟.. أما أنت لو كان بعد الموت بعث وحساب فلا شك أن خسارتك بإلحادك وعدم ايمانك بالله لن تكون كبيرة وكارثية فقط بل ستكون خسارة أبدية بلا نهاية !!... هذا الفرق بين (حجم المخاطر) بين الموقفين الوجودييْن!.. موقف المؤمن بالله المجاهد لنفسه من جهة وموقف الملحد حتى لو كان في الدنيا على خلق حسن من الجهة المقابلة!.. فهو يغامر بمفتاح الجنة الأبدية، أي الإيمان بالله الخالق وافراده بالألوهية (لا إله إلا الخالق!).. تلك هي المسألة في نظري!..

تحياتي والسلام عليكم.

سليم نصر الرقعي

11 ديسمبر 2018

(*) مقالتي (الالحاد.. محاولة للفهم!؟)

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=620763