الارتجال والحقيقة
من أنت؛ بين ما تراه، ويراه الآخر؟
طوال الوقت أنت تعيش حالتك الارتجالية، فيما أنت تفكر في صورتك الذهنية لدى الآخرين. كيف ترى نفسك وكيف يراك الآخر؟ الإشكال هو أنك مرتبط دائمًا باللحظة الراهنة والتي تتحرك في نمط سريع ومستمر. والتعايش مع القلق في إذا كنت ستوفي بالتوقعات الذهنية لدى الآخرين عنك، وبين التوقعات الذهنية لنفسك.
هل أنت الشخص الذي ترى انعكاسه في المرآة؟ أم الشخص الذي تراه في خيالك؟ أم الأشخاص الكُثر الذين يصفهم الآخرين –كُلٌ من منظوره ورؤيته وإدراكه الخاص-؟ أنت تتعايش مع الآخرين في حقبات زمنية مختلفة من عمرك وحياتك وعمرهم وحياتهم. الظروف والمواقف التي تجمعك بهم دائمًا تختلف من وقت وشخص لآخر، بينما أنت مع نفسك طوال الوقت. وأنت ترى نفسك في كل حالاتك، إذا ما تصوّرنا أنك في وعيك التام المستمر لكامل تصرفاتك وسلوكياتك وحالاتك وهذا شبه مستحيل. أنت لا ترى نفسك من الخارج، أنت تراها من الداخل، الباطن. لا تراها من الكاميرا التي تصورك من بعيد أو من الأعلى، ولكنك أنت الكاميرا الداخلية التي تتحرك في الأرجاء وترى كل شيء من الداخل إلى الخارج.
كيف تكون الرؤية من الخارج إلى الداخل إذًا؟ تكون بالكلمات والتصورات والآراء التي تصلك من الآخرين. وهنا تسقط في إشكالٍ آخر، كيف يمكنك أن تعرف أن الكاميرا الخارجية –الآخرين- التي تصورك تراك بوعي وإدراك مكتمل النمو بحيث يتيح لها الرؤية بشكل جيد؟ يمكن للشخص الذي يراك أن يُسقط عليك مشاعره وآلامه وعذاباته وتشوهاته الداخلية الخاصة، وبالتالي يهبك ما يُشبه الصورة المشوشة لكاميرا معطلة أو مكسورة.
أنت إذًا لا تعرف إذا كانت رؤية الآخرين لك هي الرؤية الصحيحة لما أنت عليه، في غالب الأحيان لا تكون صحيحة، لأن البشر بطبيعة حالهم ورؤيتهم وإدراكهم ليسوا محايدين. بينما هم يقيّمون المواقف والشخصيات وفقًا لمصالحهم الخاصة، وحتى إن كانت رؤيتهم محايدة وموضوعية، فهم ليسوا معك في كل لحظاتك وبالتالي هم لا يرونك بأكلمك ليتمكنوا من تشكيل رؤية كاملة وناضجة عنك. تعود إلى التفكير إذًا، هل أنا أراني بشكل جيد وناضج ومكتمل الوعي والإدراك؟ وما هو الوعي الكامل في الحقيقة؟ أهو القدرة على رؤية المحاسن والعيوب والعثرات والنواقص ونقاط الكمال في البنية الشخصية للإنسان؟ أهي القدرة على تمييز الطيب من الخبيث والسيئ من الحسن والمشكلة من الحل؟ لتصل إلى وعي ناضج عليك أن تعرف الطبقات المختلفة من تكوينك وسلوكياتك، أنت أحيانًا تتصرف بحُمق، ولكن هذا لا يعني أنك أحمق بالضرورة أو بشكل مستمر، ولكنك كنت فقط أحمقًا في "هذا الموقف بالتحديد". إذا صفة الحماقة ليست من سماتك الشخصية ولكنها ارتبطت بحدث قمت به. الآن متى يكون الشخص الأحمق أحمقًا بالفعل؟ حين يتصرف بحماقة بشكل غالب على شخصيته، وهذا ربما يكون لأسباب عديدة، جهل، ضغوطات اجتماعية، وغيرها. ولهذا الرؤية الذاتية لتصرفاتك اليومية عليها أن تملك القدرة على التمييز بين ما هو مرتبط بحدث أو ظرف أو موقف معين وبين ما هو صفة دائمة فيك.
أحيانًا نحن نتصرف بحمق لأننا نكون محاطين بشخص نحبه أو معجبون به، فنتلعثم ونتفوه بالحماقات بينما قد نكون في الحقيقة أشخاص أسوياء وواعين جدًا لتصرفاتنا على مدى النهار الذي لا نكون فيه محاطين بذلك الشخص الذي نحب. وأحيانًا تكون حماقتنا نابعة من تعرضنا لضغط نفسي ولحظي. إنه خيط دقيق، يفصل المعرفة اللحظية والمعرفة الدائمة والمعرفة الارتجالية. أنت على مدى النهار تتصرف في أغلب حالاتك بارتجال تام مع الآخرين، بينما في حالات قليلة تكون قد تحضرت لما ستقوله أو ستفعله، كما يفعل المُقدم على مقابلة عمل، أو عرض ما، أو الممثل الذي يستعد للوقوف أمام الكاميرا.
في بعض الأحيان أنت تملك رفاهية التمرين والتحضير، بينما في أغلب أوقاتك الأخرى، أنت تعمل بشكل آلي وارتجالي وسريع، ولهذا ترتكب عددًا لا متناهيًا من الأخطاء.
لنعود إذًا إلى الرؤية الدقيقة والسؤال الجوهري الذي شغل البشرية منذ بدء الخليقة، كيف تعرف نفسك؟ إذا لم تكن أنت الشخص الذي تراه في المرآة ولا الشخص الذي تتخيله وتحضّره في ذهنك ولا الشخص الذي يراه الآخرون المعطوبو النظر، فمن تكون؟
مزيج عارم من كل ذلك؟
الذي قد يصعب تقبله أنك قد تصل للوعي الذي يجعلك ترى نفسك بشكل دقيق إلى حد ما في المستقبل، ولكن سيكون ذلك في وقت متأخر وبعد الكثير من العثرات. الخروج من دائرة الوهم، سيتطلب سنوات طويلة من الخبرة في الشخصيات المتعددة للبشر. حتى تتمكن من تمييز الخيّر من الشرير، وما بينهما، وإذا كنت أنت نفسك شريرًا أم خيّرًا، سيكون عليك أن تُمحص النظر في كلاهما. النظر الطويل إلى بئر المعرفة، وانعكاس الوجه على النهر الجاري المتحرّك.. قد يبدو في بعض الأحيان أنه كلما أدركت نفسك على شاكلة ما، وجدتها قد تغيّرت، وقد تكون الرؤية الوحيدة الصحيحة التي تحدث هي بعد مرور تلك الحقبة الزمنية، مثل الثعبان الذي يغيّر جلده، ويكون خروجه من الجلد القديم هي الطريقة الوحيدة لرؤية ذلك الجلد بشكل واضح، وليتسنى له دراسته بتفحّص.
نورهان نور