من الآراء السائدة أن المنطق البرهاني علم صوري مفارق للعلوم التجريبية، وزاد في رسوخ هذا الرأي الاعتقاد بأن حقائقه كلية تنطبق على العقول جميعا، وأن لغته تكفينا اختلاف الألسن الطبيعية والتباسها وتعقدها؛ والصواب أننا لو راقبنا "البرهاني" في إنشاء أنساقه لوجدناه ينتهج سبل "التجريبي"؛ فهو أيضا يلاحظ ويفترض ويحقق؛ وعمله في هذا أشبه ما يكون بعمل "اللساني" في وصف ظاهرة لغوية ما؛ ولا أدل على ذلك من أنه يصنع نسقه بالرجوع إلى مواصفات قومه أو غيره من الأقوام من خلال الاحتكاك بهم أو من خلال النصوص التي تركوها، ولا يوصد باب نسقه أبدا، بل قد يُراجع الحدوس التي قام بها عليها بناؤه، ويُسقط بعضها أو يضيف إليها أخرى توسّعها وتزيد في قدرتها الوصفية والتنبّئية. (١)
فلابد إذن من التمييز بين المنطق كأداة للوصف والمنطق كموصوف لهذه الأداة، وقد غاب هذا الفرق على بعض قدماء الفلاسفة، والتبس الأمر بصدده على بعض المعاصرين، فاعتقدوا أن ما يحتويه "المنطق الصناعي" من قوانين صورية ومسائل مجردة هي نفسها القواعد التي نفكر بها عمليًا والدعاوي التي نتعامل بها يوميا، فقاسوا بها مقتضيات الخطاب الوارد باللسان الطبيعي، وصنفوا المتكلمين به فئات خطابية بحسب درجات التزامهم المزعوم بالقوانين المنطقية الصناعية.
والحق أنه لا أحد، ولو كان المنطقي نفسه، يتبع، في كلامه اليومي، ما هو مسطّر ومقعّد في رسائل المناطقة، لأن المنطق أنساق مبنية والكلام أحوال فطرية. (٢)
فإن الادعاء بوجود قواعد كلية ومطلقة للحجاج لا يمكن أن يحالفه الصواب، ولا الادعاء المقابل بأن المعايير المتفقه من المتناظرين تعم فيها فوضى تعسف الإرادة الجماعية أي تصطبغ بالنسبية المطلقة، ادعاء محق؛ ذلك أن الطرق الحجاجية التي يسلكها المتناظرون تتفاوت كفاية من حيث تحقيقها لغرض المناظرة، وهذا من شأنه أن يجعل بعضها أكثر موضوعية من بعض وأن يحد من نسبيّتها.
ولذا، فإن عقلانية "الفلسفة التداولية" لا تُعايَر بمدى تبنّي تقنيات الاستدلال المستعمل في الرياضيات، وإنما باعتمادها آليات معلومة للمجال التداولي وخاضعة لمحك النظر الجماعي.
ومعلوم أنه إذا كان المنطق البرهاني يقوم على "التوحيد" المنهجي، إذ يعتقد أصحابه أنْ لا طريق للوصول إلى الحقيقة إلا يقين الرياضيات، ولا سبيل إلى هذا اليقين إلا بالتجرّد عن كل العلائق التداولية، فإن المناظرة، بخلاف ذلك تقوم على "تعديد" منهجي، إذ الطرق إلى الحق كثيرة ومتباينة ومذاهب المتناظرين شتى.
فعلى عكس "التوحيد" البرهاني الذي يتوافق مع تصور لنظام اجتماعي تستبد فيه بنية واحدة بالتوجيه، ويُسوّى فيه غيرها من البنيات على ما بينها من الاختلافات، طوعا أو كرها، فإن المناظرة تعين على تصور واقع اجتماعي يقر بالمبادرة الفردية وبالنزعة الجماعية ويطلب إشراك الجميع في البحث عن حلول للأوضاع تقبل التنقيح والتغيير.
باختصار، إذا كان المقابل الاجتماعي "للتوحيد" البرهاني هو النظام الاستبدادي، فإن المقابل الاجتماعي "للتعديد" "المُناظري" هو بالأحرى النظام الاستشاري. (٣)
فحين نتأمل في تاريخ علم المنطق وفي واقعه، نجده قد اشتغل بصنوف متكاثرة من القواعد والمسلّمات وبضروب متغايرة من الأنساق التي تُبنى على هذه المسلّمات والقواعد، وبألوان متباينة من الحسابات الآلية التي تنشأ عن هذه الأنساق المتعددة. فبالإضافة إلى أصناف منطق القضايا ومنطق المحمولات من مختلف الدرجات على تباين مسلماتها وقواعدها، نذكر على سبيل المثال أنواع المنطق متعدد القيم وهي الأنواع التي تزيد قيمها عن القيمتين التقليديتين: الصدق والكذب زيادة قد تصل إلى اللامتناهي، وأيضا أشكال منطق الموجّهات التي تشمل منطق الضرورة والإمكان، ومنطق الواجب والمباح، ومنطق الجهات الزمانية، وكذلك أصناف منطق اللزوم "المناسب" التي تدرس خصائص اللزوم الذي يجتنب مفارقات علاقة اللزوم التقليدي.
لما كانت طرق المنطق هذه، التي هي مناهج وُضِعت أصلا لوصف العقل المجرّد وترتيب قوانينه، بمثل هذا الاختلاف والتشعب، بل التضارب والتعارض (فضلا عن الاختلافات المشهورة في العلوم الرياضية كالاختلاف المتمثل في الهندسات الاإقليدية، وفي العلوم الفيزيائية كالاختلاف على مستوى النظرية النسبية والميكانيكا الكمومية)، فإن ذلك كاف للتشكيك في إمكان وجود خطاب علمي بالمعنى الدقيق للعلم عن العقل بوصفه حقيقة واحدة يشترك فيها الناس جميعا. (٤)
__________________
(١) في أصول الحوار ص٦٤
(٢) في أصول الحوار ص٣٠
(٣) في أصول الحوار ص٦٧ و٦٨
(٤) العمل الديني ص٤٤