علاء هلال
قتل قابيلُ أخاه هابيل فأشعل نار "الصراع" التي سنظلُ نكتوي بها ؛ ان هذه القصة ترمز الى العلاقة "التنافسية التصارعية التناحرية " المصاحبة للاجتماعِ البشري ، مصاحبة الروح للجسد ؛ ان الانسان يحب ذاته ، يبحث عن مصلحته ، يقـتُـلُ من أجلها و يُـقْـتَـل ... هكذا كان التاريخ البشري مصطبغا بالدماء منذ بزوغ فجره .
و دارت رحى الايام ، و دارت معها رحى التنافس و التناحر و التصارع ، و كان أحد أفظع أشكال الأنانية البشرية متجسدا – و لا يزال - بالنظام الرأسمالي الظالم المتوحش ؛ ان الرأسماليةَ قائمة ٌ - بطبيعتها ، و منذ نشأتها- على "الاستغلال" ، استغلال فئة ، أو "طبقة" ، لبقية الفئات و الطبقات ، و لاحقا استغلال هذه "القلة" الرأسمالية القليلة ، لبقية البشر ؛ ان الرأسمالي مهموم بـ "مراكمة" المال لحسابه على حساب كل شيء ، على حساب الارض : باستنزاف مواردها ، و تدمير معالمها الطبيعية ، و "خربطة" مناخها . و على حساب البشر : باستنزاف طاقاتهم حتى النهاية ، باستحلاب عرقهم ، بإسالة دموعهم ، و بإراقة دمائهم ان لزم الأمر ، و كثيرا ما يلزم ...
ومع الطبيعة الاستغلالية المصاحبة للرأسمالية ، هناك طبيعة أخرى مصاحبة لها : انها " الأزمات " ؛ فالرأسمالية ، بسعيها لأقصى ربح ممكن بأقصى استغلال ممكن ، صنعت أزماتـها منذ بداياتها الأولى . و لأن رأسَ المال لا يتنازل عن مكاسبه ، بل يسعى الى مضاعفتها ، فقد قرر حلَ الأزمة – الناتجة عن أقصى استغلال – باستغلال أكبر ، و بوحشية أفظع ؛ فكان " التوسعُ الاستعماري " هو أحد أهم الحلول ، و هذه هي الخاصية الثالثة المصاحبة للرأسمالية : انها التوسع الاستعماري ؛ التوسع الذي يوفر المواد الاولية اللازمة للآلة الرأسمالية الرهيبة ، و بأقل الأسعار - و ربما مجانا في بعض الحالات - التوسع الذي يفتح أسواقاً جديدةً تستوعبُ المنتجات التي تقذفها آلات الرأسمالي الجهنمية ...
و توسع يعقبه توسعات ، و صراع يعقبه صراعات ، فحروب و ويلات ، حتى احترب العالم كلُّـه ؛ حربين عالميتين أهلكتا الحرثَ و النسل ، و انهتا الامبراطوريات و القوى الاستعمارية القديمة – بريطانيا ، فرنسا ... الخ – و أعلنتا عن ميلاد "العصر الامبراطوري الأمريكي" ، ورثت اميركا الجميع تقريبا ، و لم يكن هناك أحد ينافسها بقوة ، الا "الاتحاد السوفيتي" .
ودخل العالمُ حلقةً جديدةً من الصراع ، كان طابعه الاول أنه صراعٌ "بارد" – الحرب الباردة – لأن الطرفين أدركا أن أية مواجهة عسكرية تعني الابادة الكاملة للطرفين بسبب موازين القوى الحساسة ، و توفر السلاح النووي . و كانت الخاصية الثانية – المرتبطة بالأولى - هي "الحروب بالوكالة" ؛ دول و جماعات تحارب بعضها بعضاً ، بالنيابة عن القوتين " العظيـمـتـين " : الولايات المتحدة و الاتحاد السوفيتي ... و كانت المنطقة العربية أحد أهم بؤر الصراع ، و لا تزال ... ( راجع للتوسع في هذه النقطة محمد حسنين هيكل ، ملفات السويس ) .
ان عالمنا العربي - بموقعه الاستراتيجي ، و بنفطه الذي اكـتُـشف في الصحراء القاحلة – أسال لعاب المتصارعين الجشعين . وكان الاستعمار "القديم" قد رعى اقامة دول "قبلية" في الجزيرة العربية ، تماما كما أسس "اسرائيل" ، ليحافظ على شرايين المواصلات و التجارة العالمية مفتوحة ، تتدفق فيها بحُـرِّيةٍ و سلاسة ، قوافل الغرب التجارية و العسكرية ، هذا من جانب ، و من جانب آخر ، ليضمن لنفسه وجودا عسكريا في المنطقة ، و الهدفان مترابطان ، و يضمنان معاً هدفين مترابطين أيضا : التفوقَ و الهيمنةَ الغربية ، و اضعاف العرب ، بإبقائهم متفرقين و أتباعا له . و بعد "مؤتمر يالطا" – الذي رسم فيه المنتصرون ،بالدم، أهم الملامح لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية - استلم "فرانكلين روزفلت" - الرئيس الأميركي - جزءاً دسماً من التركةِ الاستعمارية – و هي تركةٌ عربيةٌ بالطبع – عندما عقد اتفاق "كوينسي" مع " عبد العزيز آل سعود " ، توفر الولايات المتحدة بموجبه الحماية للسعودية ، و بالمقابل : تضمن السعودية امدادات الطاقة للولايات المتحدة ... !!! انها صفقة لمصلحة الامبراطورية الجديدة ، و لمصلحة "عائلة" عربية واحدة : آل سعود ، و هذا – بالطبع - على حساب العرب جميعا ، بمن فيهم المواطنين السعوديين !!! .
و لكن كما كان هناك قابيل "القاتل" ، فقد كان هناك هابيل "المقتول" ؛ الذي رفض القتل حتى دفاعا عن نفسه ، فذهب ضحية انانية أخيه و حسده ، و لكن القيم التي جسدها المقـتول ، ظلت أحد الخصائص البشرية بجانب خاصية الأنانية ؛ فإلى جانب الشر هناك دائما الخير ، و الى جانب الانانية هناك دائما التضحية ، والى جانب "الاستعمار" ، و "التبعية للاستعمار" ، هناك دائما "النزعات التحررية" الرافضة للهيمنة و الاستعمار :
كان هناك الاحتلال الانجليزي و الملك الفاسد " فاروق " في مصر ، و كانت هناك - بالمقابل - "ثورة يوليو" التي أطاحت بفاروق و النظام الملكي ، و أعلنت قيام الجمهورية ، و ناضلت حتى طردت الاستعمار الانجليزي . كان هناك "ايزنهاور" و " تشرشل " ، رموز الهيمنة الاستعمارية ، و خادمهم " نوري السعيد " ، و كان هناك – أيضا - الزعيم الكبير " جمال عبد الناصر " ، و " نهرو " و " تيتو " ، رواد مدرسة " عدم الانحياز " ، كان هناك "حلف بغداد" الذي استهدف ربط العالم العربي بالقوى الغربية ، و كانت هناك مقاومة شرسة لسياسة الاحلاف الاستعمارية ... و لكن الظروف الموضوعية – داخليا و خارجيا – أفشلت المشروع الثوري الناصري – و لا نعفي عبد الناصر من أخطاء كبيرة - كما أفشلت ، قبل ذلك ، مشروع " محمد علي " الذي أسس مصر الحديثة ، و كما أفشلت ثورة " عرابي " التي كان يطمح قادتها الى ضم سوريا و الحجاز لمصر بعد القضاء على الملكية في مصر و تحويلها الى جمهورية ...
اذن تم اجهاض المشاريع و الثورات النهضوية بتضافر الظروف الداخلية و الخارجية - و هي ظروف شديدة الارتباط ببعضها - فأحكم الغربُ قبضته بعد وفاة جمال عبد الناصر ، خاصة عندما قبض " السادات " على مفاصل الدولة و استكمل "الثورة المضادة " التي ولدت في احشاء نظام عبد الناصر نفسه ؛ كان عبد الناصر وطنيا ، قوميا ، تواقا الى عالم عربي مستقل و متحرر على كافة الاصعدة ، ساعيا الى تغيير اجتماعي نحو الأفضل و الأعدل ؛ تغيير يرفع الأثقال عن كاهل المسحوقين و المحرومين ، هذا هو جوهر الارث الناصري . أما السادات فقد كان مرهونا طبقيا لأصحاب المال و المصالح الذين يمصون دماء الشعب ، و بالتالي كان الساداتُ "اقليميا" تابعاً للغرب ، و يصح ان نعكس فنقول : لقد كان السادات تابعا للغرب ، فكان اقليميا مرهونا لأصحاب المصالح ، لا فرق ؛ هي امور مترابطة دائما ، معادلة لا تستقيم الا هكذا : المصلحة الوطنية لأي قطر عربي = المصلحة القومية و الوحدة العربية = محاربة الاستعمار = محاربة الرجعية و الاستغلال ، و العكس : المصلحة الفئوية أو الطبقية = الاقليمية أو القطرية = التبعية للاستعمار = الرجعية و الاستغلال .
اذن : أكمل السادات الهجمة المضادة ، فحالف الرجعية العربية و الغرب – اميركا تحديدا – و منذ ذلك التاريخ المشؤوم حدثت تغيرات جذرية في عالمنا العربي مصاحبة لتغيرات عالمية أهمها تزايد هيمنة الولايات المتحدة ، و تقلص نفوذ ودور الاتحاد السوفيتي ، ثم انهياره :
- تراجع الدور المصري تراجعا كبيرا ، خاصة بعد أن خرجت مصر "الرسمية " من الصراع العربي الاسرائيلي باتفاقياتها مع اسرائيل ، اتفاقيات حجمت الوجود ، و القوة العسكرية في سيناء ، فأضعفت الموقف العربي - الضعيف أصلا - أمام اسرائيل ... خرجت مصر من حلبة الصراع ضد اسرائيل و بالتالي خرجت من حلبة الصراع ضد الهيمنة الغربية . و فقدت حضورها العربي و الدولي الكبير الذي كان مبنيا على سياسات تحررية تقدمية . نعم لقد كان المناخ العالمي أيام عبد الناصر مختلفا ، و مواتيا لسياسات الاستقلال و التحرر ، و لكن تغير المناخ العالمي لا يبرر الانحدار الى هاوية التبعية المطلقة .
- تعاظم الدور السعودي عربيا و اقليميا .
- دعم مصر و السعودية لحركات "الاسلام السياسي" في محاولة لحصار الفكر و "المشروع العروبي" . و نجحتا للأسف الى حد كبير . فأصبحت أفغانستان قبلة لآلاف من الشباب العربي بدلا من فلسطين ، وصار همهم تحرير "كابول" بدلا من "تحرير القدس" ، و تبنوا مشروع "الخلافة الاسلامية" بدلا من "مشروع الوحدة العربية" ، فصاروا بذلك أدوات بيد الغرب الاستعماري يمزق بواسطتها جسد الأمة العربية .
- الاجتياح الاسرائيلي للبنان اجتياحا دمويا وحشيا ، و القضاء على العمل الفدائي الفلسطيني المنظم فيه
- كارثة غزو العراق وتدمير جيشه ، و نسف بنيته العلمية بعد حصار متوحش استمر لسنوات .
- و كانت النتيجة الكارثية لكل ما سبق هو : اتفاقيات السلام مع اسرائيل ؛ وخطورة هذه الاتفاقيات تكمن في معناها لا في تفاصيلها فقط ؛ انها تعني باختصار : "الاستسلام الكامل " للهيمنة الغربية بكافة أشكالها ؛ بهذه الاتفاقيات كان "تدجين" العرب قد وصل الى مرحلة متقدمة خطيرة .
- تقسيم السودان .
- صناعة / او استغلال " الربيع العربي " لتدمير ليبيا و سوريا ، فنجحوا في الاولى و فشلوا في الثانية ، و كانت هذه الفترة شاهدا على الدور المدمر لمحور :الغرب ، الرجعية العربية ، تركيا ، و الاسلام السياسي .
- و ها هو اليمن يحترق ، ها هم أطفاله يموتون بأيد عربية و سلاح غربي ، ها هي أجسادهم الغضة تفتك بها الأوبئة و الامراض ، و قلة الزاد ... ها هو اليمن يدفع ثمن رفضه للتبعية لطغاة العرب و العجم.
و كسب الاستعمار "الجولة" ، و لكنه لم يكسب الحرب ، لقد ارتاح قليلا ، و لكنه لم يرتح نهائيا ؛ نعم ؛ لقد عربدت الولايات المتحدة و تبجحت - خاصةبعد انهيار الاتحاد السوفيتي - و لكن الحقيقة أن الغرب - الذي تبجح بانتصاره في الحرب الباردة - كان "جريحا" كما لاحظ كثيرون ، و كان متباينا داخليا ، و كانت أقطابا جديدة تبرز . فلجأت الامبريالية الى أخبث الأساليب : "تركيز" المركز الرأسمالي ، و "تذرير" المحيط ؛ بمعنى توحيد جهود الدول الرأسمالية الغربية الكبرى - بقيادة الولايات المتحدة طبعا - و تفتيت الدول التي يعتبر "رأس المال" تماسكها خطرا أو معيقا لهيمنة "الكبار" ، و هو ما اوردنا أمثلة عليه أعلاه ( غزو العراق ، تقسيم السودان ، تدمير ليبيا ، الحرب الوحشية على اليمن ، و محاولة تدمير سوريا ) . الا أن هذا كله لم يُجد فالشعوب لم تمت ، كما تمنت الامبريالية و خططت ، بل ازدادت الشعوب انفصالا عن مواقف قادتها السياسيين . ( للاستزادة : د . عادل سماره ، التطبيع يسري في دمك)
و كانت بؤر المقاومة للهيمنة الغربية الظالمة تنبت و تنمو غربا و شرقا :
فالمظاهرات المناهضة للعولمة أشعلت المدن الغربية ذاتها ، و كانت شعاراتها تعبر عن أزمة النظام الرأسمالي ، و ها هي قمة العشرين ، التي انعقدت في "بيونس آيرس" ، تحمى ب 25 الف شرطي ، و هذه المظاهر الأمنية المُشَـدَّدَة و الواضحة ، تدل على تعمق الفجوة التي تفصل أغنياء العالم عن فقرائه ، وعن تعمق الفجوة التي تفصل الزعماء السياسيين عن شعوبهم ، و ها هم أصحاب "السترات الصفراء" يتظاهرون في فرنسا احتجاجا على اجراءات اقتصادية تثقل كاهل الشعوب ، المثقلة أصلا .
و صمدت كوبا و فنزويلا رغم كل المؤامرات عليهما
و نمى الاقتصاد الصيني و اصبح منافسا مخيفا للولايات المتحدة
و استطاعت روسيا اعادة بناء نفسها و فرض حضورها بقوة على الساحة الدولية
و في منطقتنا العربية استمرت المقاومة ، في فلسطين و في لبنان ، و حققت تقدما كيفيا مهما .
و ها هي السنوات المرة على سوريا قد مـرَّت ، و بدأت سوريا تتعافى .
و ها هي المرارة في حلق الغرب و المتآمرين من العرب ؛ ها هم يتصرفون بغطرسة و وقاحة و طيش ، تماما كما يتصرف قطب الرأسمالية الأكبر "ترامب" ، و ما هذه الغطرسة و الوقاحة و الطيش ، الا تعبيرا عن عمق أزمة "الوحش" الرأسمالي ؛ ان الوحش مُثقلٌ بالأزمات ، و في هذه الحالة لا وقت للمجاملات ، و الخطط طويلة الأجل ؛ ان الوحش الرأسمالي مجسدا بالولايات المتحدة ، جريح جرحا خطيرا ، فلا نفع اذن ، للمضادات الحيوية و المسكنات ، لا بد من بتر و وصل ، لا بد من حل سريع و مباشر ، لا بد من العربدة المكشوفة و القتل العلني ، من نقض الاتفاقيات و المعاهدات الدولية ، من اعلان "الحرب التجارية" على الصين اللعينة الوقحة الهمجية ، التي تتجرأ على مزاحمة أسياد العالم ، لا بد أن تدفع السعودية "الأتاوات" لنحميها ، لا بد أن تدفع أكثر ، أكثر من السابق ، و لا بد أن يقبل العرب - و الفلسطينيون خاصة - ب"صفقة القرن" و الا ... !!! انها انتفاضة الوحش الرأسمالي الجريح ، و لعلها تكون انتفاضة موت ، موت قد تطول مقدماته ، و قد تُدمرُ كثيرا ، قبل أن تـُفضي هذه الجراح و المقدمات الى الموت ، و اعلان نظام عالمي مختلف ... (راجع محاضرات د.سمير أمين حول أزمة الرأسمالية)
و لكن ، رُبَّ ضارةٍ نافعة ، لقد كشفت السنواتُ الفائتةُ - بكشافات الدم و النار - من هم الذين يعملون لمصلحة الامبريالية ، و من هم الذين يعملون لصالح العرب ؛ لقد سقطت الأقنعة ، و بان الصبح لذي عينين ... و يبقى السؤال الأهم : كيف سيكون شكل العالم ؟ و أين سيكون موقع العرب فيه ؟ طبعا لا يوجد جوابٌ قاطعٌ محدد ، و لكن المستقبل - على أي حال – محكوم بجملة من حقائق الحاضر و معطياته :
على المستوى الدولي :
يعيش النظام الرأسمالي أزمة جدية و خطيرة ... و هناك تباين واضح بين الدول الرأسمالية ذاتها
- هناك قوى عالمية صاعدة ، بعض هذه القوى تنافس ، و بقوة ، الولايات المتحدة
- هذه القوى - المنافسه للولايات المتحدة - متنوعة من حيث القوة و التأثير ، و من حيث التوجه الايديولوجي ، و الخط السياسي ، و المنهج الاقتصادي .
- أكثر هذه القوى صعودا و نفوذا لا تعارض الرأسمالية جذريا (روسيا) بل هي رأسمالية ، و كذلك – مع الاختلاف – الصين ، لكن هذه القوى تحاول باستمرار ، و بثبات و تقدم ، منافسة الولايات المتحدة – تحديدا روسيا - و تصنع لها - باستمرار و ثبات و تقدم أيضا – مناطق نفوذ جديدة على حساب الولايات المتحدة .
- هذه المنافسة أدت الى دعم "بعض" هذه الدول للقضايا العربية ، اسهام روسيا في افشال المخطط الدولي /الاقليمي على سوريا لا يمكن انكاره.
- لا شك أن لهذه الدول مصالح دفعتها الى تبني هذه المواقف الداعمة ، و لا شك – أيضا - أن لها متطلبات .
- هناك دول و قوى عالمية تتخذ موقفا راديكاليا من الرأسمالية ، و من الولايات المتحدة طبعا ، كفنزويلا و كوبا ، و لهذه الدول نظامها الاقتصادي و السياسي المختلف تماما عن الأنظمة الاقتصادية و السياسية الجائرة للغرب الرأسمالي . و لكن النفوذ المادي لهذه الدول محدود جدا في منطقـتـنا ، أما نفوذها المعنوي فهو قوي جدا ؛ فهي نماذج مهمة ، وملهمة ، لتحدي الغرب الامبريالي ، كما أن تجاربها و أفكارها ، في ميادين الاقتصاد و الاجتماع و السياسة ، تجارب مميزة ، و يمكن الاستفادة منها ، و البناء عليها مستقبلا .
على المستوى الاقليمي : هناك دولتان في غاية الأهمية : ايران و تركيا . و لكل منهما مصالح حيوية جدا في المنطقة ، كان ذلك فيما مضى و لا يزال .أما تركيا فقد وقفت طوال السنوات السابقة بوضوح مع المحور المعادي للعرب - و لنكف عن التهليل بدعمها لغزة ، و ما شابه ذلك ، فهذا ذر للرماد في العيون – و اتحدث تحديدا عن موقفها من الحرب على سوريا و من حالفها . و لكن تركيا اليوم عدلت لهجتها و مواقفها ، بسبب تغير الموقف لصالح سوريا و محورها . و رغم ذلك تبقى تركيا خطرا قائما على العرب خاصة أنها كانت ، و لا تزال ، محتلة لأراض عربية ... و أما ايران فإنها على النقيض من الموقف التركي من الأزمة السورية ، لكنها لا شك صاحبة مصالح في المنطقة ، و لا شك أنها لعبت و لا تزال دورا ملموسا في منطقتنا يخدم مصالحها ، لا سيما في العراق و سوريا و لبنان ، و لكن المصلحة العربية و المصلحة الايرانية التـقـتا على أرضية الصراع في سوريا و عليها ، كما انهما التقتا على الاراضي اللبنانية ، و في فلسطين . و لا يعني هذا ان هذا الالتقاء المصلحي سيبقى الى الأبد ، و لكن لكل حادث حديث ، فنحن نصف اللحظة التاريخية الراهنة .
على المستوى العربي الرسمي :
- هناك اربعة أقطار عربية لها وزن كبير جدا : سوريا ، مصر ، العراق ، و السعودية . أما الأخيرة – بنظامها الحالي - فلا خير يُرْتَجى منها عربيا ، كما ثبت بالدم و الدموع ، و أما العراق فقد استطاعت الدولة فيه استعادة السيطرة على معظم المناطق التي احتلتها عصابات " داعش " ، و لكن العراق غير مؤهل - حاليا - للعب دور قومي في العالم العربي بسبب تركيبة النظام المأزومة و غير المستقرة ، و التي تُعبِر عن خلل و اضطراب و صراع اجتماعي يلعب فيه الخارج دورا كبيرا ، أما مصر فلم تغير "الثورة" فيها الا الوجوه ، و بقيت روح النظام السابق موجودة مع أزمات اقتصادية أشد ، و تبعية سياسية أكبر للمؤسسات المالية الدولية ،و للسعودية . أما سوريا فهي - رغم كل عيوب النظام ، و رغم الحرب عليها – الا انها الدولة العربية الوحيدة اليوم، التي يمكن أن يكون لها مساهمة مهمة في دعم القضايا القومية العربية .
- يجب التفريق بين المواقف و التطلعات الشعبية العربية ، و بين المواقف و التطلعات الرسمية العربية ؛ ان الموقف الرسمي – كما تكرر أعلاه – موقف منحاز تماما للمعسكر المضاد للمصالح العربية ، الا من رحم ربي . و على رأس هذه المواقف الموقف السعودي الخطير و الهدام . أما الشعوب العربية فهي "قوة ثورية كامنة" ، تحمل بذور التقدم و النهضة المطلوبة ، ترفض الغرب و اسرائيل و التبعية ، و تتطلع الى العدالة و التحرر و الاستقلال . و لكن خيبات السنوات الدموية السابقة تجعل الناس حذرة مترددة من أي تحرك ، و ان كانت - في الوقت نفسه ، و نتيجة للأزمات الاقتصادية الخانقة – قابلة للتحرك ، و ما تحركات الاردن و تونس و غيرها الا أدلة على حراجة الوضع و قابليته الكبيرة للإشتعال ، خاصة مع ارتماء معظم الدول العربية في احضان "صندوق النقد الدولي" الذي تعمق اشتراطاته الأزمات الإقتصادية الإجتماعية .
- أما الأحزاب و القوى السياسية العربية – الدينية و العلمانية – فهي - في غالبيتها العظمى - تغني أغنية لا تُـطْـرِب الجماهير ، ان هذه الاحزاب و القوى تقبع في أبراجها العاجية ، تُـفــتِي في مصالح الشعب ، و هي ترتدي البزات الفاخرة ، و الناس عراة ، و ترتشف أقداحا من الشاي الدافيء ، و المواطنون يرتجفون من البرد ... ان الجماهير التي خرجت الى الشوارع – حتى لو كان الربيع العربي ، كله او بعضه ، مؤامرة – خرجت لتعلن أن الدولة و القوى السياسية ، الرسمية و الشعبية ، فاشلون منتفعون ، أصحاب نظرات ضيقة و سطحية ، بعيدون عن مشاكل الناس و آمالهم الواقعية و العميقة .
- أما المثقفون العرب ، و آه من المثقفين العرب ؛ فان الحديث عنهم ذو شجن ، و ذو شجون ، لكنه في جوهره يشبه الحديث عن القوى العربية غير الرسمية ؛ ان المثقفين العرب – في معظمهم – يتحدثون عن ظواهر الاحداث ؛ يبحثون في الاشكال الخارجية ، يصفون السطح ، و لا ينفذون الى الباطن و العمق ؛ يتحدثون – مثلا - عن فكر "التكفير" دون ربطه بسياقه الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي ، فيصبح الحل أن نُـفَـنِّـد هذا الفكر و نتربى على فكر الحوار و التسامح و كفى الله المؤمنين القتال ، و مع أهمية ذلك النقد و هذه التربية ، الا أنهما لا يكفيان ؛ فالفكر – سواء التكفيري أو المُعتدل أو غيرهما – افرازات لواقع موضوعي ، هذا الواقع هو الذي يجب الاهتمام به ، و علاج الفكر في سياقه .
استنتاجات :
- يمكننا القول – بشكل عام – أن العرب يواجهون أربعة مخاطر أساسية تهدد وجودهم ذاته : النفوذ و الهيمنة الغربية ، اسرائيل ، الأنظمة العربية التابعة للغرب ، و التخلف العربي في مختلف المجالات ، و على عدة مستويات .
- كل خطر من هذه الاخطار عبارة عن رافد يغذي الاخطار الآخرى ؛ فالإمبريالية تدعم الأنظمة العربية التابعة لها و تحميها ، و تدعم اسرائيل ، لأن هذه الأنظمة ، مع اسرائيل ، توفر للامبريالية الموارد و الدعم و القواعد العسكرية ... الخ . كما أن هذه الأنظمة تمنع قيام أي شكل من أشكال التقدم و النهضة في العالم العربي .و الأنظمة العربية التابعة أيضا ، لا تستطيع البقاء دون دعم القوى الامبريالية لها ، بل و دون التعاون مع اسرائيل ، لأن هذه الأنظمة غريبة عن الأمة و قضاياها ، بل هي النقيض التام لقضايا الأمة و همومها . و كذلك الاستعمار و الأنظمة العربية التابعة له ، و اسرائيل ، كلهم ، لا يمكن لهم ضمان البقاء مسيطرين متنفذين ، دون الحفاظ على أشكال التخلف كافة : القيم القبلية السيئة ، التخلف الفكري ، التخلف اقتصادي ، و غيرها من مظاهر التخلف ؛ فتطور الانتاج مثلا نحو انتاج صناعي متقدم ، يعتبر رافعة مهمة جدا للتطور و الاستقلال ، و هذا مرفوض رفضا باتا .
- و بناء عليه ندرك لماذا تحررنا سياسيا ، و لم نتحرر فعليا ، لماذا حدَّثنا بلادنا العربية و لم نصبح حداثيين متقدمين ، لأننا أخرجنا الاستعمار العسكري و أبقينا على الاستعمار الاقتصادي ، لأننا حققنا مظاهر الحداثة و التقدم ( الدولة العصرية ، الفصل بين السلطات ، الدستور ، الانتخابات ... الخ ) و لم نحقق جوهر الحداثة و التقدم . اذن المطلوب هو : تحرر شامل ، تحرر من : النفوذ الغربي ، اسرائيل ، التبعية ، و التخلف .
- هذا التحرر الشامل يتطلب "عملا جماعيا شعبيا منظما" ، يضع في سلم أولوياته محاربة هذه الأخطار الأربعة ، كما يضع في اعتباره الحاجات الواقعية الموضوعية لكافة فئات الشعب ، و يفتح المجال لمساهمة كل القطاعات في العمل الشعبي العام ، خاصة الشباب و المرأة ، في وضع المبادئ ، البرامج ، و المشاركة في تنفيذها .
- يجب استغلال التناقضات العالمية و الاقليمية لمصلحتنا القومية ، فهذه التناقضات تشكل ثغرة يجب على العرب استغلالها في استجلاب الدعم لقضاياهم العادلة ، و لنتذكر أن مشروع محمد علي و مشروع جمال عبد الناصر – المشروعين النهضويين الأكثر أهمية و اكتمالا في التاريخ العربي الحديث – تحققا في ظل منافسات و تناقضات دولية . بالإضافة طبعا للعوامل الداخلية .
- لقد آن الأوان لكي ندرك أن المهم – سياسيا – ليس الهوية التي تمثلها هذه القوة العالمية أو تلك ، و لا الانتماء الطائفي لهذه المجموعة الاقليمية أو تلك ؛ ان المهم – سياسيا – هو "المصالح" وحدها – و هي مصالح مشروعة و عادلة بالنسبة للعرب - فاذا كان الشيعة - مثلا - سيدعمون قضايانا فلنصبح كلنا "شيعة من الناحية السياسية" ، كما قال أحد المفكرين العرب .
- الغالبية العظمى من المفكرين العرب غارقين في التجريد ، و قد آن الأوان لينزلوا الى أرض الواقع بمعنيين : اولا - عليهم مخالطة كل الناس ، و الاطلاع على قضاياهم و مشاكلهم ، و معرفة تطلعاتهم و آمالهم ... الخ ثانيا - عليهم ادخال البعد الواقعي الموضوعي ( الاجتماعي ، السياسي ، الاقتصادي ... الخ) أو السياق التاريخي ، في حساباتهم ، بكلمات أخرى : عليهم فحص الحقول التي تنبت فيها الأفكار ، و تتخذ على مقاسها القرارات ، و تنتج بواسطتها السلوكيات و العادات . و لا يمكن لهذه النقلة أن تحدث دون الاهتمام الكبير بمناهج علم الاجتماع و الاقتصاد و علم النفس و غيرها من المناهج التي تعيننا على فهم الواقع فهما عميقا ، و بالتالي تعيننا على وضع الخطط و البرامج لتغييره بما يحقق لنا - كعرب - حياة أفضل.
- و من الضروري أن يكون هناك تكامل بين المثقفين العرب و بين القوى الشعبية العربية ، بحيث يصبح الفكر و الثقافة فعلا ثوريا ذو أفق عملي ابداعي تغييري ، و ليس مجرد كلام لا أثر له .
الخلاصة :
في قلب اللحظة التاريخية الراهنة ، السوداء ، بل شديدة السواد ، يلوح "بصيص"من النور بالنسبة للعرب ، يتمثل هذا البصيص في أزمة القوى الامبريالية الرأسمالية التقليدية - هذه القوى التي تهيمن و تعربد على العالم العربي - و صعود قوى جديدة تنافس القوى التقليدية . و على العرب استغلال هذا التناقض لخدمة قضاياهم القومية .
لكن بما ان كل الدول العربية ، تقريبا ، تصطف مع المحور الامبريالي التقليدي ، فلا يتوقع منها التقاطع مصلحيا مع القوى الجديدة الصاعدة (الا اذا حدثت انهيارات او ضعف كبير في المعسكر التقليدي يجبرها على التعاون مع القوى الصاعدة ، بل ان هذه الانهيارات قد تؤثر على الدول العربية التابعة نفسها . و هذا متروك لحركة التاريخ ).
لذلك فإن دورا كبيرا - و ليس كل الدور - يقع على عاتق "القوى الشعبية" ، التي يجب ان تعمل على :
- ابداع شكل معين من اشكال العمل الجماعي العربي
- ان يستند هذا العمل على مساهمة شعبية فاعلة
- ان يضع في سلم اولوياته معالجة الاخطار الاربعة على العرب : (الهيمنة الغربية ، اسرائيل ، الرجعية العربية ، و التخلف ) أي ان يضع في سلم اولوياته الهم الوطني القومي ، و ليس الهم فكري الأيديولوجي المجرد البعيد عن الواقع .
لكن - لاكون واقعيا - هذا العمل المنشود ليس سهل التحقيق ، الا ان هناك "احتمالا" ان يتم فرضه مع الوقت بضغط الجماهير - "القرفانه" من القوى السياسية البائسة المتحجرة - فالجماهير تتطلع الى التحرر و الوحدة و العدالةالاجتماعية ، لانها تدرك أن فيها مصلحتها و كرامتها ؛ ان الآمال القومية التحررية ليست مجرد حلم رومانسي بل هي الحل الواقعي لمشاكل الأمة ، و الجماهير العربية تدرك ذلك .
لقد التفت الشعوب العربية حول جمال عبد الناصر التفافا لم يعرفه التاريخ العربي الحديث ، و كان هذا الالتفاف التفافا حول مشروع طال الحلم به عربيا ، و أدى انهيار هذا المشروع الى خيبة آمال واسعة و مميتة ، و سادت لفترة ردة على تراث عبدالناصر ، ارتفع فيها صوت المطالبين بالخلافة التي ستعيد امجاد الامة ، و ستحقق العدل ، و جاء "الربيع العربي" ليثبت ان المطالبين بالخلافة ما هم الا مخربين للاوطان ، بعضهم بغباء ، و بعضهم مع سبق الاصرار و الترصد .
و أحسب اليوم أن الجماهير كفرت بكل الأحزاب العربية - دينية كانت ام علمانية - و سئمت من كل المنظرين العرب - يساريين و يمينيين و متوسطين -و لكن بذور "الثورة العربية" لا تزال في رحم الارض العربية ، في صدور الناس و عقولهم ، تنتظر مناخا مناسبا ، تنتظر من يرعاها ، و لا أعرف لها راعيا الا قوى تضع نصب عينيها مصلحة الجماهير ، مترجمة سياسيا بالوحدة و التحرر من الهيمنة بكافة أشكالها ، و مترجمة اقتصاديا بالعدالة الاجتماعية ، و مترجمة اجتماعيا و فكريا باجتراح قيم ابداعية ايجابية ، و أفكار خلاقة ترضع من حليب الواقع فتثمر ما ينفع الناس .
ملاحظة :
للأمانة استفدت في عرضي هذا من أفكار و كتابات متنوعة ، لم ارجع اليها مباشرة ،و لم اقتبس منها - الا سطرين او ثلاثة ربما من د . عادل سماره- و لكني استبطنتها ، و آمنت بها :ككتابات ناجي علوش ؛ المفكر و المناضل العروبي الذي لم يعطى حقه . و لولا ابنه الدكتور ابراهيم لضاعت كتاباته تقريبا . كما ضاعت كتابات المفكر عبدالله الريماوي بعدم اعادة طباعتها الا على نطاق محدود ، و من الصعب العثور عليها اليوم حتى الكترونيا
كتابان للدكتور غالي شكري، و هو مفكر مختلف لم تعد كتاباته منتشرة ايضا ، رغم اهميتها و ريادتها
محاضرات الاقتصادي الكبير الدكتور سمير امين
كتابات الاستاذ محمد حسنين هيكل خاصة ملفات السويس و سنوات الغليان
كتابات متنوعة للدكتور عادل سماره
و غيرهم .