عندما كنا صغارًا نسمع دائماً من أمهاتنا و جداتنا مقولة (تكبر وتنسى) ... كانت تلك المقولة هي حلهم السريع لأغلب مشاكلنا الطفولية و علاجهم لكل جرح يُصيبنا و مواساتهم لنا في كل بُكاء وشكوى ... جاهلين أن أحداث وتفاصيل الطفولة لاتمحى ولاتزول من الذاكرة .. وكبرنا وكبرت معنا الذاكرة ... وكثرت أيامنا وكثرت معها الأحداث ومع كل حدث تتسع رقعة الذكريات و نحن على أمل أن ننسى ..
(تكبر و تنسى ) ....
عندما كنت صغيرة كنت أصدّق هذا القول في كل مرة أسمعه حتى شعرت بأنني كبُرت ولكن لم أشعر يوماً بأنني نسيت ... و لأنني كنت أعيش مع أهلي بنفس المدينة التي يسكن بها ( أهل أمي ) فكنت أذهب مع أمي لزيارة جدتي وجدي ( والدة أمي و والدها ) بشكل شبه يومي و كان جدي رحمه الله يعمل ( مؤذن ) يؤذن في مسجد الحي الذي يسكن فيه ... كان المسجد قريب من منزله ... حيث أذن في مسجده عشرون عاما ... وكان عمره عندما بدأ يؤذن سبعون عام يزيد أو ينقص قليلا ً .... كان جدي رحمه الله جاداً حريصاً محباً لهذا العمل الجليل ... فكان يحرص كل الحرص على الإطلاع لمواقيت الأذان التي تتغير في كل شهر و أسبوع ... و السير على قدميه في ذهابه و إيابه و يسابق الوقت كي لا يتأخر ... رغم أنه كان أحدب الظهر و إحدى يديه مصابه برعاش الأعصاب إلا أنه كان يسير إلى مسجده بخطوات مليئة بالخشوع و الهيبة و الوقار ... لا يتغيب عن عمله ولا يتأخر و يعتذر عن قبول الإجازات السنوية فكان يسلك طريق المسجد خمسة مرات في كل يوم في ظلمة ليل الشتاء وفي المطر وفي نهار الصيف وحرقة الشمس ... و مرت السنين و أُحيل جدي إلى (التقاعد) ... وبعد تقاعده بفترة قصيرة بدأنا نلاحظ عليه تمتمات غير مفهومة بدأ يهذي و يتصرف تصرفات تؤشر بأنه وصل إلى أرذل العمر ... أصبح ينسى الكثير من الأمور و لايدرك شيء عمَّ يدور حوله حتى صار كطفلاٍ صغير تخشى عليه من شرور الحياة ... كان لا يفقه شيئا ً عن الوقت أمتزج ليله بالنهار و نهاره بالليل .... ونسي نفسه والحياة بأسرها ... ولكنه لم ينسى مهنته المشرفه ... فكان ينام نوماً متقطعاً و أول شيء يفعله عندما يستيقظ هو الوضوء .... يتوضاء و يرتدي ثوبه الأبيض الطاهر ويضع على رأسه (شماغه الأحمر ) و يدخل سلسلة ساعته في جيب صدره ... ليقف في زاوية المجلس بكامل طهارته و هيبته الممتزجة بالبراءة واضعا يديه المرتعشة على أذنيه ليرفع على مسامع أسرته صوت الأذان كاملاً دون خطأ و لا نقصان ولا تحريف .... كان يرفع الأذان بصوته الخاشع و المتحشرج بالوهن و الضعف ... فكان يتكرر هذا المشهد وهذا الصوت في منزلهم في كل مرة ينام و يستقيظ ... في الصباح الباكر أو اخر النهار أو في منتصف الليل ... نعم كَبُر جدي لكنه لم ينسى مهنته المشرفه التي امتهنها بحب وأدّاها بكل أمانة وصدق ... كان يهذي دائماً بأسماء أشخاص لا أعرف عنهم شيء وعندما سألت جدتي عن تلك الأسماء قالت بأنهم رِفاقه القدامى... كانت تجمعه بهم صداقة عميقة وعتيقة و حال القدر بينه وبينهم ... كذلك كان يردد بأسم والدته و والده و زوجته ( جدتي ) و أولاده ....
(تكبر وتنسى) ... حال جدي جعلني أستوعب و اقتنع بأن البشر يكبرون و لاينسون ... هم في الحقيقة يسلون لا ينسون فمقولة (تكبر و تنسى) هي بالأصح (تكبر و تسلا ) ... و إن نسينا فنحن غالباً ننسى الأمور المتطرفة التي لم تلامس شيء من أرواحنا أو عقولنا أو عواطفنا ... كأن ينسى المرء تعاليم دينه عندما لايكون لهذا الدين مكاناً في حياته ... أو أشخاصاً عابرين ... أو حديثا قيل له أو قاله ولم يُعير له أهمية ...
أغمض عينيك الآن وعد بذاكرتك إلى الوراء إلى أبعد حد ممكن ... ستجد نفسك غارقاً في محيط الذكريات العتيقة التي يصعب عليك نسيانها
(تكبر و تنسى) ...
ثق و تأكد بأنك تسلا لكنك لاتنسى أجمل اللحظات و كذلك أقسى الأيام و أعمق المشاعر ، لن تنسى حديث الأحبة و أحداث الطفولة و جنون المراهقة ... رائحة الأمهات لاتنسى ... وصوت الأباء لاينسى .. شجارنا مع أخوتنا وخواتنا في منزلنا القديم و جيراننا القدامى ... أول حب لاينسى و أصدق حب ايضا لاينسى ... أول معلم و أقرب صديق ... أيام الغربة ...صفعة الخذلان ... ليالِ الفرح .. ومهنة العمر .. أجمل الهدايا ... و أقدم الرسائل ...
فيا صغار ... لاتصدقوا بأنكم ستنسون شيئاً عندما تكبرون هانحن سبقناكم و كبرنا و مانسينا من أمرنا شيء .. كل شيء فينا حي .... كل شيء معنا يتنفس ... كل شيء فينا باقِ ... لا تنتظروا النسيان يأتيكم ليمحي عن ذاكرتكم شيئا أوجعكم أو أسعدكم أو منحكم شعوراً عميقاً ... أو أحتل في القلب مكاناً .. ( تكبر و تسلا ) لكنك حتماً لن تنسى و ستتذكر أدق تفاصيل الماضي في أي زمان و في أي مكان ومتى ماأردت .❤