• أبو سعيد السيرافي : حدّثني عن المنطق ماذا تعني به؟
• أبو بشر متى بن يونس :
أعني به أنه آلة من آلات الكلام، يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإني أعرف به الرجحان من النقصان، والشائل من الجانح.
• .السيرافي : أخطأت، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف، والإعراب المعروف، إذا كنا نتكلم بالعربية، وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل إذا كنا نبحث بالعقل، فإذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها، واصطلاحهم عليها، وما يتعارفون به من رسومها وصفاتها، فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه، ويتخذوه قاضيا وحكما لهم وعليهم، ما شهد به قبلوه ، وما أنكره رفضوه؟
• متى :
إنما لزم ذلك لأن المنطق يبحث عن الأغراض المعقولة، والمعاني المدركة، والناس في المعقولات سواء، ألا ترى أن أربعة هي نصف ثمانية عند جميع الأمم؟ وكذلك ما أشبهه؟
• السيرافي :
لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع في شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة وأنها ثمانية، زال الاختلاف وحضر الاتفاق، لكن ليس الأمر هكذا، ولقد موهت بهذا المثال، ولكم عادة بمثل هذا التمويه، ولكن مع هذا أيضا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل لها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟
• متى : بلى.
• السيرافي : أنت إذن لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية، وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها ، وقد عفت منذ زمن طويل، وباد أهلها، وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم بتصاريفها.
متى: يونان وإن بادت مع لغتها، فإن الترجمة حفظت الأغراض وأدّت المعاني، وأخلصت الحقائق.
السيرافي: إذا سلّمت لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقوّمت وما حرّفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما التاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدّمت ولا أخّرت، ولا أخلّت بمعنى الخاص والعام ولا بأخصّ الخاص ولا بأعمّ العام -وإن كان هذا لا يكون، وليس في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني- فكأنك تقول: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه.
• متى : لا، ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه، وعن كل ما يتصل به وما ينفصل عنه، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر، وانتشر ما انتشر، وفشا ما فشا، ونشأ ما نشأ، من أنواع العلم وأصناف الصنائع، ولم نجد هذا عند غيرهم.
• السيرافي : أخطأت وتعصّبت وملت مع الهوى، فإن علم العالم مبثوث في العالم، بين جميع من في العالم، ولهذا قال القائل :
العلم في العالم مبثوث ونحوه العاقل محثوث .
أسألك عن حرف واحد وهو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميزة عند أهل العقل، فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تُـدِلُّ به وتباهي بتفخيمه، وهو الواو ما أحكامه؟ وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه أو على وجوه؟
• متى :
هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه، لأنه لا حاجة بالمنطقي إليه، وبالنحوي حاجة شديدة للمنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مرَّ المنطقي باللفظ فبالعرَض، وإن عثر النحوي على المعنى فبالعرَض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.
• السيرافي :
أخطأت، لأن الكلام، والنطق واللفظ والإفصاح والإعراب والإبانة والحديث والإخبار والاستخبار والعرض والتمني والنهي والحض والدعاء والنداء والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة، ألا ترى أن رجلا لو قال : " نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق، وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح، وأبان المراد ولكن ما أوضح، أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ، أو أخبر ولكن ما أنبأ " لكان في جميع هذا محرّفا ومناقضا، وواضعا الكلام في غير حقه، ومستعملا اللفظ على غير شهادة عقله وعقل غيره، والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة . وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى، أن اللفظ طبيعي، والمعنى عقلي، ولهذا كان اللفظ بائدا على الزمان، لأن الزمان يقفو أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة، ولهذا كان المعنى ثابتا على الزمان، لأن مستملي المعنى العقل، والعقل إلهي، ومادة اللفظ طينية ، وكل طيني متهافت، وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها، وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربية لها اسمًا فَتُعار، ويسلم لك ذلك بمقدار، وإذا لم يكن لك بدّ من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة، فلا بد لك أيضا من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة، واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة.