كانت تجربة الحياة في هولندا وتحديدا في مدينة لاهاي تجربة فريدة وممتعة ، ولعل أفضل ما فيها في نظري الشخصي هو حصول أبنائي على فرصة تعليم تختلف في عدة أبعاد عن مدارسنا في الخليج . ورغم أن بقاءنا في هولندا لم يستغرق سوى سنتين وهي فترة قصيرة نسبيا ، الا أن الفوائد كانت جمة وملموسة.
سأوجز في عدة نقاط المناحي التي أعجبتني في عملية التعليم وسأبدأ بمدرسة ابنتي أولا وهي المدرسة البريطانية الدولية ثم أعرج على مركز الرعاية النهارية الذي كان يرتاده ابني الصغير وهو مركز حكومي هولندي .
ريما : المدرسة البريطانية - تأسيسي ٢، و الصف الاول الابتدائي.
مبنى المدرسة بسيط التصميم وعملي للغاية ، عبارة عن طابقين ، الصفوف الدنيا في الطابق الأرضي والعليا في الطابق الاول ، عندما تقف عند باب المدرسة الرئيسي بإمكانك أن تشاهد نهاية المبنى على الجانب الاخر بكل سهولة حيث يوجد أيضاً المدخل الثاني للمبنى . الصفوف كلها على الجانب الأيمن من المدرسة وعلى الجانب الأيسر الصفوف الخاصة ( الموسيقى ، التربية البدنية ، والحاسب )، أرضيات الصفوف عبارة عن موكيت لان الكثير من الدروس تعطى للأطفال وهم جالسون على الارض ،ويمارس الأطفال عدة أنشطة أيضاً على الارض، الطاولات دائرية وعلى كل طاولة قد يجلس ٤-٥ أطفال. تحوي الصفوف نوافذ عالية وكبيرة تسمح لأشعة الشمس بالدخول وتشرف على الحديقة فتضفي جوا مرحا على الفصل، هذه النقطة في التصميم بالذات جعلت المدرسة تفوز بجائزة أفضل تصميم مدرسي في أوروبا.
١- القراءة :
كوني أهوى القراءة جعلني أنتبه لهذا الجانب أكثر من غيره ، الاهتمام بالقراءة كان مميزا حيث تتواجد مجموعة صغيرة من الكتب داخل الصف الدراسي ، و عدد هائل من الكتب المصممة لتعليم القراءة تقسم لمراحل ملونة حسب مستوى الطالب أو الطالبة وتوضع هذه الكتب في أرفف طولية أمام جميع الفصول الدراسية تتناسب و أطوال الطلاب والطالبات.
يستلم الطلاب عند بدء السنة الدراسية ملفا توفره المدرسة يكتب عليه ملف القراءة ( reading folder) توضع فيه الكتب التي يختارها الطفل بنفسه يوميا حسب مستواه القرائي، مع سجل صغير لتسجيل عناوين الكتب التي يقرأها الطلاب بمساعدة الوالدين والمعلمة في البيت او خلال اليوم الدراسي ، وكذلك أي ملاحظات على مستوى القراءة .
قرأت ريما خلال تسعة أشهر تقريبا ، ١٦٥ كتاب ولما تنتهي السنة الدراسية بعد ، وهذا عائد الى أن الطالب يقرأ ما معدله كتاب الى كتابين في اليوم الواحد دون ذكر الكتابين الذين يستعيرهما من المكتبة المدرسية مرة واحدة في الاسبوع وهذه عادة ماتكون قصصا خيالية وليست تدريبا على القراءة . ان الثروة اللغوية التي كونتها ابنتي خلال السنتين الماضيتين كانت كبيرة جدا ومؤثرة في طلاقتها باللغة الانجليزية واستخدامها مفردات صعبة قلما تسمعها من طفل الخامسة او السادسة ، وهذا طبعا مرده الى الكثرة والمثابرة على القراءة ، والذي بدوره يحسن من مستوى الكتابة.
٢- الفنون: يبدأ الاهتمام بالفن وكبار الفنانين منذ سن صغيرة ، يولي الغربيون اهتماما كبيرا بالفن على اختلاف مشاربه ، فهناك دراسات عديدة أثبتت التأثير الإيجابي لدراسة الفنون فمن يبرع بالفنون يبرع كذلك في القراءة والرياضيات والتفكير النقدي والمهارات اللغوية . إن تدريس الفنون يسهم في صنع جيل ذو أداء أكاديمي مميز متطور اجتماعيا وعاطفيا ويشجع على المشاركة المدنية في المستقبل.
درست ريما عن ماتيس وتعرفت على المدرسةالوحشية من خلاله وهو من كبار أساتذتها في المرحلة التأسيسية الثانية ولما كانت معلمتها تهوى الفن ارتأت أيضاً أن يدرس الطلاب عن المدرسة التكعيبية ورائدها بابلو بيكاسو، رسمت ريما في آخر الفصل لوحة تكعيبية مستلهمة من بيكاسو واشتركت مع زملائها في رسم لوحة كبيرة مستوحاة من لوحات ماتيس وزايد عليها الأهالي ثم بيعت بمبلغ معقول ليتم التبرع به مساهمة في بناء مدرسة في أوغندا.
من الأفكار المميزة بالنسبة لموضوع الفن وجود ممر واسع في المدرسة يسمى ممر الفنون ، حيث أحد الجدارين عبارة عن سبورة يستطيع الأطفال الرسم عليها بالطباشير ، والجدار الاخر تعلق عليه أوراق بيضاء للرسم في أوقات الفراغ او اثناء الفرصة . كان ممرا ملونا مليئا بالإبداع الفني الطفولي.
٣- الموسيقى :
ترتبط المواد ببعضها ارتباطا وثيقا فالى جانب تعليم الموسيقى وتوفير دروس خاصة للعزف على آلات مختلفة الا أن الموسيقى كانت أيضا مدخلا لدراسة الرياضيات وتمرينا للتعرف على الاعداد، الانماط، والرسوم البيانيةعن طريق قراءة النوتات الموسيقية، الاستماع الجيد للايقاعات المختلفة وعدها مما فاجأني تماما , حتى ذلك الحين لم أتمكن من رؤية أية صلة بين الرياضيات والموسيقى !
٤- الرحلات:
لم يكن هناك أي مجمع تسوق في لاهاي حتى يتم أخذ الأطفال إليه في ما يسمى رحلة مدرسية او بالأحرى رحلة استهلاكية كما تفعل للأسف بعض مدارسنا في منطقة الخليج . كانت الرحلات دائماً ذات هدف أعمق من الترفيه فقط ، فهي تنمي حس التعاون ،التقيد بالأنظمة ، الاهتمام بالآخرين ، والعمل في فريق ، بجانب المتعة بالطبع . ذهبت ريما في عدة رحلات الى البريد ، المزرعة ، الغابة ، و البحر . وفي جميع الأحوال المناخية، حيث لا تتأجل الرحلات او تلغى في حال المطر او الثلوج او ما شابه ، بل يتعلم الطفل كيف يقضي وقتا ممتعا رغم العراقيل ، من الملاحظ أن الرحلات جميعها كانت الى أماكن طبيعية فالطفل يبدي اهتماما كبيرا بالطبيعة في هذه السن المبكرة واصطحابه الى هذه الاماكن يشبع فضوله ويجيب على أسئلته الكبيرة بشأنها.
٥- الحفلات المدرسية :
تنظم الحفلات المدرسية دوريا ، في مناسبات مختلفة مثل يوم الشعوب او يوم عيد الملك الهولندي ، عيد الميلاد ، وهي عادة ما تحوي سوقا وأنشطة جميلة ومختلفة يمارسها الأطفال يعدها الأطفال الأكبر سنا والمتطوعون من الأهالي ، غالبا ما يكون ريع الحفلات هذه خيريا، وموجها نحو مشروع معين مثل : مساعدة ذوي الدخل المحدود في استيفاء رسوم المدارس ،بناء مدرسة أو مكتبة في أحد الدول الافريقية، وهكذا .
٦- العروض :
يقدم طلاب كل فصل دراسي عرضين خلال السنة الدراسية كل عرض يتناول موضوعا معينا ، تعطى فيه المعلمة الحرية في تحديد الفكرة وكيفية عرضها . عادة العروض غير مكلفة أبدا ، ولا يطلب من الوالدين دفع أي مبالغ نقدية على الإطلاق، او حتى توفير اي شيء عيني . كل ما نستلمه كان ورقة مكتوب عليها دور الطالب في العرض لنتدرب عليه سوية .أذكر أن ريما كان عليها تمثيل دور ملاك في أحد العروض ، والزي المفروض أن ترتديه ذو لون أبيض فسألت معلمتها إن كانت تفضل أن ترتدي ابنتي فستانا أم بنطالا أبيضا حتى أشتريه لها ، فأجابت برجاء حار أن لا أشتري شيئا جديدا وأن بإمكان ريما أن ترتدي تي شيرت أبيض منزلي عادي! فتذكرت الطلبات التي كانت تطلب منا والمبالغ التي كنا نقدمها لشراء وتفصيل الازياء لتقديم عروض لافكرة فيها ولا معنى .
٧- لا للفروض والواجبات :
لم تعد إبنتي يوما وهي مثقلة بالواجبات المدرسية ، بل لم يكن هناك أي واجبات إطلاقا . يوجد بدلا من ذلك نشاط إبداعي واحد كل أسبوع أو إسبوعين يتعلق بالموضوع الذي يتم مناقشته خلال تلك الفترة والنشاط عادة يتطلب أن ينفذ بمشاركة الوالدين ولاحظ كلمة مشاركة وليس مساعدة وهناك فرق كبير بين معنى الكلمتين . في كل نصف فصل يعقد يوم مفتوح حيث يزور الأهالي الفصل ويطلعون على أنشطة أبناءهم المختلفة والملاحظات التفصيلية لأداءهم.
مبدأ لا للواجبات يستمر حتى الصف السادس الابتدائي !
٨-المعلمات :
ربما كان هذا أفضل جزء من هذه التجربة التعليمية , أن أقابل نساء شغوفات بعملهن وبالاطفال . إن إسلوبهن الرائع في التحدث الى الطلاب، واهتمامهن بالعلوم والفنون، وبحثهن الدائم عن أفضل طريقة ممكنة لايصال المعلومة وثقافتهن العالية لأمر جدير بالاحترام . لقد لامسن حياتنا وغيرن نظرتنا الى العملية التعليمية.
* لا أذكر يوما غابت فيه مديرة المدرسة السيدة سو أسبنل ومساعدها عن إستقبالنا كل صباح وترحيبهما بالطلاب والاهل.
٩- المساحات الخضراء : طبيعة البلدان الأوروبية تلعب دورا كبيرا في وجود مساحات خضراء في المدرسة ، لا حظت أن المدرسة لا تحتوي على ألعاب كثيرة ولكن هناك الكثير من الأشجار والمسطحات الخضراء للعب الحر وإعطاء بعض الصفوف الخارجية عندما يكون الجو معتدلا . من خلال هذه المساحات الخضراء يراقب الأطفال حياة الحشرات المختلفة ، أنواع الأشجار واختلاف أوراقها ، ويلاحظون حركات العصافير ويقومون بإطعامها ، وزراعة بعض النباتات البسيطة .
١٠-لايوجد كتب
نعم لا كتب على الإطلاق .. لا لحمل الأثقال على تلك الظهور الصغيرة الغضة.
ركان : فرانك داك - مركز الرعاية النهارية
ارتاد ابني مركزا للرعاية النهارية لا يبعد سوى شارعا من منزلنا ، وهو واحد من ٧٠ مركزا حكوميا للرعاية النهارية منتشرة في مدينة لاهاي وحدها . يبدأ العمل بها من السابعة صباحا وحتى الساعة السادسة والنصف مساء.والدفع بنظام الساعة . للام حرية اختيار الأوقات التي تناسبها حسب جدولها اليومي او الأسبوعي . بالنسبة لي كأم غير عاملة اخترت ٣ أيام في الاسبوع بمعدل ٦ ساعات لكل يوم .بالطبع هذه المراكز هي حل ممتاز للأم العاملة لانها تفتح أبوابها قبل بدء الدوام الرسمي وتقفل بعد انتهاءه ، وتستقبل الأطفال من عمر ٤ أشهر حين تنتهي إجازة الأمومة في هولندا المدفوعة بأجر كامل.كم تمنيت أن يكون لدينا مثل هذه المراكز التي تراعي ساعات العمل الطويلة ووتتناغم ساعات عملهم مع معظم ساعات عمل أغلب الجهات الحكومية والخاصة, وتريح الامهات العاملات من (شحططة ) العاملات المنزليات والمواصلات .
تدار هذه المراكز من قبل وزارة الشئون الاجتماعية ،وتوفر للأطفال جميع المستلزمات من حفاظات ، مناديل ، دراجات، عربانات لنقل الأطفال خلال الرحلات ، وجبات رئيسية ، ووجبات خفيفة .
مبنى المركز كان منزلا أعيد ترميمه وتصميمه ، بطريقة عصرية تحافظ في نفس الوقت على الهوية الهولندية ، الفصل كبير وواسع يسمح بحرية الحركة ، الألعاب المختلفة تجمع في أدراج يمكن فتحها من قبل الطفل بكل سهولة او مساعدة يسيرة جدا ، توجد طاولة طولية خشبية تستخدم لتناول الطعام وممارسة الاعمال اليدوية . وطبعا توجد أماكن لنوم الأطفال.
تمارس في المركز أنشطة الأطفال المعروفة والمتداولة ، غناء ، أعمال يدوية ، تلوين , رحلات الى السوبر ماركت، الحدائق المنتشرة في المنطقة، مشاهدة المنحوتات المنصوبة في أنحاء المدينة ، حفلات شاي.لقد قضى ابني وقتا ممتعا جدا .
-----------------
في اعتقادي أن كل ما ذكر ليس صعبا البتة ، وبإمكاننا أن نطبقه في مدارسنا بالمبادرات الشخصية الزاخرة بالحماس والنشاط ، إن تكوين أفراد منتجين و ناضجين هو اللبنة الاولى في بناء مجتمع ناجح يتميز بحب العلم والالتزام بالعمل ، فيعود بالفائدة على نفسه وعلى البشرية وهذا ماحققته المجتمعات الأوروبية .
شكر مفعم بالحب لكل من جنيفر تنفولدر , تنيكي الكيما , كايت براندرث , آنجيلا غراي , روث ,أودري ,بيغي ,ودورين .
للمزيد من الإلهام إطلع / إطلعي هنا على بعض المواقع التعليمية :
www.edutopia.com
www.discoveryeducation.com
www.educationworld.com