يوافق اليوم - 16 اكتوبر - (اليوم العالمي للخبز)، وهو يوم اختارته منظمة التغذية العالمية للتذكير بأهمية الخبز في عالم يعج بالفقراء ممن يفتقدون الخبز ولقمة العيش الأساسي، فكل عام وخبزكم عامر ودافئ بنعمة الله وفضله ولكن علينا أن نتفكر في قضية العدل الاجتماعي على مستوى الشعوب ومستوى الأفراد في هذا اليوم ونبحث عن سر وسبب الخلل في عدم التوزيع العادل للخبز بين البشر!.. نحن لا ندعو إلى المساواة المادية والاقتصادية بين البشر في كل شيء فهذا حلم رومانسي قديم وقد يدخل في ميدان الأفكار الطوباوية!.. لكن لابد من أن ينال كافة البشر في كل مكان حقهم من رغيف الخبز العالمي، فالله خلق الأرض تعج بالخيرات الطبيعية ووهب الانسان مهارات عالية على تنمية الثروة وتضخيم حجم (الخبز العالمي) كما أنه أمر بالعدل وأن ينال كل البشر نصيبهم من هذا الرغيف العالمي الكبير!.. الكل له نصيب مفروض بغض النظر عن موقعه في العالم هل في مناطق الوفرة أم في مناطق الندرة!.. فالرغيف حق للجميع وهو من (المعاش الأساسي) الذي يجب أن يكون مضمونًا لكل انسان بغض النظر عن موقعه الاجتماعي بل وعن جهده!، فحتي لو كان عاطلًا عن العمل لسبب من الأسباب فلابد من توفير المعاش الأساسي له (الخبز، والملبس، والمسكن) إما ما يزيد عن هذا فعليه أن يشد همته ويزيد من طاقته وجهده لتنمية ثروته الخاصة ولتحسين أحواله المعيشية، فالمعاش الأساسي للإنسان يجب أن يكون مكفولًا وحقًا طبيعيًا من حقوق الانسان في كل مكان، أما ما يزيد عن هذا (الحد الأساسي) من المعاش ففي ذلك فليتنافس المتنافسون!....
هذا أول ما خطر في بالي اليوم في اليوم العالمي للخبز ... أما الأمر الآخر الذي خطر في بالي فهو السؤال التالي: ((من هو مخترع الخبز وأول خبّاز في التاريخ))؟!!.. فلا شك أن (الخبز) أهم من (المذياع والتلفزيون) (الكومبيوتر والانترنت) ومن (التليفون والهواتف الذكية) ومع ذلك فمخترعو هذه الأدوات والوسائل المهمة في مجال الاتصالات معرفون أما من اخترع (الخبز) فلا شك أنه ممن زاغت عنه الأبصار وغفل عنه التاريخ!!.. ربما السبب لأن اختراع الخبز حدث من قبل التاريخ!... لكننا في يوم الخبز العالمي لابد أن نتذكر ذلك (المخترع والجندي المجهول) الذي خطرت في باله فكرة الخبز محاولين تصور كيف خطرت في باله فكرة الخبز!؟؟.. فالخبز يتكون من الطحين (طحين القمح أو الشعير أو الذرة) + الماء وربما قليل من الملح و(الخميرة)(1).. وبلا شك أن الخميرة بالشكل الصناعي المتوفر لدينا حاليًا لم تكن متوفرة في عصر ما قبل التاريخ!... ولهذا نتصور أن الخميرة البدائية الأولى نتجت عن المخمرات الطبيعية أي البكتيريا النافعة والتي لم يعرفها الانسان إلا بعد قرون!.. لكنه وبشكل عملي اكتشف أنه إذا ترك (العجين) أي عجين الطحين أي الطحين المخلوط بالماء في الهواء فإنه يتخمر بشكل مفيد مما يجعله يصبح لذيذ الطعم عند تحميصه على النار!.. ربما بدأت عملية اكتشاف واختراع الخبز بهذه الطريقة!.. وكما جرت العادة لابد لما نطلق عليه عامل الحظ و(الصدفة)(2) دور في هذا الاكتشاف والاختراع كحال اكتشاف الانسان البدائي لجودة اللحم المشوي وأفضليته عن اللحم النيئ من حيث الرائحة والمذاق وسهولة المضغ، فربما علقت شاة في شجرة ضربتها صاعقة واشتعلت فيها النيران فاحترقت هذه الشاة بشكل طفيف، فشم الانسان الأول رائحة الشواء وراقت له ثم ذاق طعم لحم هذا الحيوان المشوي فأحبه وسعى إلى تكرار تجربة الشواء بنفسه!... ربما اكتشاف (العصيدة) سبق اكتشاف (الخبز)، فالعصيدة ربما من أٌقدم الأطعمة التي عملها البشر بأيديهم أي من الأطعمة المصنعة لا الأطعمة الطبيعية كالفواكه والخضروات واللحوم.. العصيدة عبارة عن طحين مضافًا إليه الماء بكمية أكبر مما في عجين الخبز فضلًا عن الملح وهي تطبخ داخل وعاء على النار مع العمل على تحريكها وتقليبها بعصا تسمى (المِعْصد أو المِعْصدة) حتى تستوي وتنضج ويصبح طعمها ألذ وأشهى مما هي نيئة!.. ربما يكون بعض هذه العصيدة مما ترك في الهواء تخمر ونضج على سطح الوعاء من الخارج ثم كان بداية فكرة الخبز وربما هذا الوعاء البدائي الذي بلا شك كان مصنوعًا من الطين والفخار كان بداية فكرة (التنور) وهو بداية فكرة اختراع (الفرن) و(المخبز)!.... ثم انطلاقًا من هذا الاكتشاف (3) المتحقق من خلال الملاحظة والتجربة والتذوق الحسي والشم تم اختراع الخبز كطعام اشتق من العصيدة الأولى..... هذه مجرد تخمينات ولكن في كل الأحوال يبقى المخترع الأول للخبز مجهول الهوية كمخترع العصيدة، ويظل (الخبز) من أهم الاكتشافات والاختراعات الأساسية للبشر إذ أن هذا الاختراع وبالرغم من كل هذه القرون لا يزال يفرض حضوره بل ودوره في حركة التاريخ، فالأساس الأول للاقتصاد الطبيعي هو السعي لإشباع الحاجات الأساسية للإنسان كالماء والطعام والملبس والمسكن والنار أما دور التجارة كمحرك لعجلة الاقتصاد فقد جاء متأخرًا عن دور (الحاجات الأساسية الطبيعية)، ومع ذلك لا يمكن لنا حصر مسألة حركة التاريخ وتفسير أحداثه والظواهر الاجتماعية بناءً على العامل المادي والاقتصادي فقط، فقد أثبت لنا التاريخ وكذلك الواقع أن (الانسان) لا يعيش بـ(الخبز) وحده ولا يكافح من أجل (الخبز) فقط بل هو كائن و(حيوان أخلاقي) تتعلق روحه وعقله بالعدالة والحرية والكرامة والرحمة والمحبة والقيم النبيلة والمعاني الجميلة تعلق جسمه بالهواء والماء والحرارة والظل والطعام والمسكن وكل وسائل المعاش بل وتعلق جسمه ونفسه بالجنس الآخر كرفيق في متعة الفراش!.
وختامًا ... كل عام وخبزكم مُصان ودافئ وشهي الطعم والرائحة، ولكن علينا حينما نقضم قطعة (هشة بشة)(مقرمشة) من هذا الخبز الدافئ اللذيذ ونحن نلوكها في أفواهنا ببطء وتلذذ أن نتذكر أمرين:
الأول: هو كل هذه الملايين من الجياع المساكين الذين لا يحصلون على لقمة خبزهم إلا بشق الأنفس بل وربما ببذل ثمن من مخزون كرامتهم كآدميين فيكون طعم خبزهم معجون بطعم ذلتهم!.
الثاني: نتذكر ونتفكر في تاريخ رحلة البشر الضاربة في القدم التي انتهت باختراع (الخبز) كلقمة عيش أساسية للبشر حتى يومنا هذا، ولا ننسى دور ذلك الانسان البدائي القديم والذكي الذي اكتشف هذا الاختراع فهو بمثابة الجندي المجهول في رحلة صناعة الخبز!
******************
سليم الرقعي 2018
الهامش:
(1) لازالت (الخميرة) (البكتيريا/الفطريات) تعتبر من المواد الأساسية المهمة في صناعة الأغذية والأشربة التي لا يستقيم حالها ويلذ طعمها ونكهتها إلا بالتخمر، فالخميرة ضرورية لصناعة الخبز وصناعة الألبان والأجبان والزبادي وكذلك لصناعة الخمور وغيرها!.
(2) هناك الكثير من الأمور والموافقات في حياتنا قد يعتبرها البعض مجرد مصادفات عشوائية عمياء ساهمت بطريق الحظ وخبط العشواء في تخليق وتطوير الكون والأرض والحياة والانسان وكذلك ساهمت بعد ذلك في تخليق وتطوير الأدوات والمخترعات ووسائل المعاش ووسائل التمدن بل وتشكيل المجتمعات!، فالأمر بمعزل عن العقيدة في وجود خالق مبدع حكيم له حكمة وغاية وراع سام للبشر على الأرض يهديهم لكل هذه الاكتشافات والاختراعات لتحقيق مراده بتنمية وتطوير الحياة على الأرض وعمارتها حتى تبلغ ذروتها وزينتها وكمالها الجمالي، الأمر بمعزل هذه العقيدة التي أرجح شخصيًا صحتها بعد طول بحث وفحص وتمحيص لكافة الفرضيات الأخرى (الإلحادية) بالرغم ما لها من حجج منطقية .. يبدو بالفعل – وبمعزل عن وجود خالق وراع له حكمة وغاية من الخلق – يجعل أولًا النشوء والتطور سواء في مسألة الكون والحياة أو مسألة الاكتشافات والاختراعات بل وتطور المجتمعات والحضارات مجرد مصادفات عمياء وخبط عشواء وحظوظ سعيدة!.. لكنني وبمنظور عقلي لا أسلم بصحة هذا الأمر بل أعتقد أن (الخالق المبدع) المخترع لكل هذا الكون والوجود يدير الأمور بشكل حكيم ويدل البشر تارة عن طريق الهام العلماء والمخترعين وتارة عن طريق الوحي للأنبياء والمرسلين والهام المصلحين على ما يسند ويرشد عقول البشر ويسدد خطاهم في رحلة التطور والترقي التي ستبلغ ذروتها عند نهاية التاريخ من خلال عمارة الأرض بشكل يكاد يبلغ حد الكمال من خلال تطور العلم والتقنية والفلسفة العدلية للبشر!.
(3) أفضل أحيانًا التعبير بعبارة (الاكتشافات) عن عبارة (الاختراعات) لأنني اعتقد أن الانسان لم يخترع لا النار ولا الكهرباء ولكنه اكتشف سرها فاستخدمها، اكتشف سر ظاهرة الطفو فاخترع السفن واكتشف سر الطيران فاخترع الطائرات واكتشف سر الكهرباء فاخترع المولدات واكتشف الطاقة الذرية فاستخدمها في الحرب والسلم ... فالنار موجودة في الطبيعة منذ القدم وقبل خلق الله للبشر وكذلك الكهرباء الطبيعية موجودة في الكون والطبيعة بل وفي أجسامنا وادمغتنا!.. وكذلك الطاقة الذرية أمر طبيعي دورنا كبشر اكتشفناها ثم استعملناها تارة في الشر وتارة في الخير! .....