-ملاحظة في مستوى وعينا الإسلامي:

في رمضان السنة الماضية قرأتُ مقالة مطولة أو قل دراسة ضافية لمالك بن نبي في كتابه (القضايا الكبرى) كان عنوانها :

انتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث.

وجاء بفكرة جديدة عليّ ما كنت انتبه لها، ولا ينتبه الإنسان ولا يعقل إلا حين يتخلى عن السطحية في التفكير وينظر ويكشف ما وراء الأفكار والسطور.

رتب مالك بن نبي المستشرقين إلى طبقات من صنفين:

أ/ من حيث الزمن:

-طبقة القدماء، مثل جربر و دوريياك والقديس توماس الأكويني.

-وطبقة المحدثين، مثل: كاره دوفو وجولد تسيهر.

ب/ من حيث الاتجاه العام نحو الإسلام والمسلمين لكتابتهم:

-فهناك طبقة المادحين للحضارة الإسلامية

- وطبقة المنتقدين لها المشوهين لسمعتها.

وتعجبتُ من مالك بن نبي حين قال أن دراسته هذه سوف تقتصر على المادحين فقط لأنهم الأخطر من كل هؤلاء.. وهذا أمر جديد عليّ فعلاً، ولكن الأمر كان أكبر وأخطر مما نتصور.. والذي يدرس ما أحدثه هؤلاء المستشرقون من آثار من ناحية اجتماعية وسياسية وفكرية وكيف وظَّف قادةُ الصراع الفكري مؤلفاتهم هذه في (تنويم) العالم الإسلامي وترويضه حتى فقدت أجهزة الاستقبال عندنا أي مبرر للدفاع، ونامت على أمجاد الماضي...الذي يدرك كل ذلك يفهم ضرورة التخلي عن السذاجة في وعينا الإسلامي وينتبه لغير المنتبه له، ويحس ويشعر حتى للمؤثرات التي تعطل احساسه وشعوره..

لأننا لا نستحق أن نكون أمة شاهدة على الأمم ونحن سذج..مغفلين بهذا الشكل..

وخذ مثالاً على ذلك هذه الفقرة لمالك بن نبي في دراسته البديعة تلك حيث قال:

(إننا نرى اليوم مرأى العين هذا العمل الفتّاك، ونرى أثره في كل تفاصيل حياتنا الفكرية، والسياسية والاجتماعية، وفي البلاد العربية حيث تكونت تجربتي وخبرتي؛ مواطناً، وكاتباً، وصحفياً.

وليس كتاب كامل بكافٍ لسرد هذه التجربة. ولنذكر منها فقط على سبيل المثال آخر تفصيل من تفاصيلها : (انعقد أخيراً بباريس مؤتمر العمال الجزائريين بأوربا، وبهذه المناسبة تقرر من لدن المشرفين على المؤتمر توزيع كتيب لصاحب هذا العرض، تناول فيه مشكلة من مشاكلنا اليوم، بالخصوص في الجزائر، البلد الذي اتخذ من كلمة (الديقراطية) شعاره الدستوري.

ولكن أصحاب الاختصاص في الصراع لم يهملوا هذه المناسبة من اهتمامهم، ولم يفتهم ما تقرر توزيعه بهذه المناسبة، ولكن كيف يسدون الذريعة، أعني كيف يسدون الطريق على الأفكار المعروضة في الكتيب الذي سيوزع في أثناء المؤتمر، حتى لا يصل مدها إلى رؤوس المؤتمرين، أو على الأقل حتى يكون لها أقل مدّ ممكن؟

وإذا بنا نرى الدعوة توجه إلى تلك السيدة الألمانية المقربة التي وضعت أو وُضع اسمها (زيغريد هونكه) على ذلك الكتاب ذي العنوان الجذاب (شمس الله تشرق على الغرب) وفيه ما فيه من مدح وتمجيد للحضارة الإسلامية.

وتقدمت السيدة وقدمت كتابها إلى المؤتمر، فانتقل على الفور بروحه من مجال المشكلات الحادة القائمة اليوم، إلى أبهة الماضي الخلاب وأمجاده!.

ولم يكن الصديق الذي يذكر لي هذه القصة يخطر على باله أي شيء من صلتها بـ(الصراع الفكري)، وهو يقول: وفي الأخير قامت القاعة كلها لتحيي السيدة!.

ولا شك، أن القصة تكشف عن جانبين: الجانب الذي يبرز حساسية الجماهير المسلمة لأمجاد ماضيها، والجانب الذي يكشف عن إمكان استغلال هذه الحساسية لإلفات الجماهير عن حاضرها.

وهذا الجانب هو الذي يهمنا، لأنه يلتقي في الزمن مع أوج الموجة العارمة التي تكتسح العالم اليوم، من أمواج الصراع الفكري، ولأنها فعلاً موجهة في أوجها بالخصوص في البلاد الإسلامية، حتى وإن كانت لا تشعر بها أحياناً. إنما نرى كيف يتصرف أولو الاختصاص في الصراع الفكري، في ظرف خاص من ظروفه، عندما تعرض فكرة عمل وتأمل على الجماهير الإسلامية، كيف يستطيعون لفت الأبصار عنها بعرض أفكار أخرى في المناسبة ذاتها، أفكار جذابة، تدعو للأحلام السعيدة، أفكار مقتبسة من قصص ألف ليلة وليلة.

هذه هي القاعدة العامة التي يجب علينا أن نجعلها دوماً نصب أعيننا؛ إننا كلما طرحنا مشكلة وعرضنا لها حلاً من الحلول فإن قادة الصراع الفكري يأتون على الفور بما يصرف عنه الأبصار أو ما يزيفه تزييفاً).