التقيته في أواخر عام ١٩٤٥م كانت برلين تنفض ثوبها من بقايا الشظايا وغبار البارود

وجهه كان قاتما ، عيناه غائمتان تهمان بالمطر ولا تمطران

تجاعيده لم يطرأ عليها أي تغيير باتت أكثر نضجا فقط

ابتسامته وحدها التي استقالت

كان يجلس على معقد خشبي قبالة مقهى عتيق في البلدة الموغلة بالوجوه

يعزف الساكسفون للغرباء ولجرحى الحروب

لكن لا أحد يصغي ، الناس مشغولة بترميم حياتها التي هدمتها المعارك

توقفت قريب منه اقتربت قليلا أكثر قلت لعله يتعرف علي

لكنه كان مشغولا جدا

آخر الحزن قررت أن أمضي ليس مهما أن يتذكرني

من الأصل لم يكن يعرفني لم يقرأني على نحو كاف ، لم اتخذ مقعدا في ذاكرته ولم يكن صوتي قد علق بعد في أزرار قميصه الذي قدته الحياة الاف المرات .

هكذا حدثني عقلي أو هكذا قال لي وجعي وأنا أجمع نفسي التي ترامت في الطريق منه والطريق إليه

من الغد قررت أن أذهب إلى المقهى مجددا

أردت أن أراه ليس مهما أن نتحدث هذه المرة ، أن نشرب القهوة المرة التي تشبه مزاجه أو نستمع لقصيدة لم يرد لها أن تكتمل .

حتى أني لست مشتاقة لأسمي حين يقوله وأشعر أن لا أحد يحمل هذا الاسم غيري !

فقط يكفي أن أراه

كان المقهى صاخبا كدائما الأحاديث السياسية تثقب الصامد من جدرانه

الشتائم اللعنات وزجاجات الخمر الفارغة .

جلت ببصري لم يكن هناك .

ربما لم يدق منبه الساعة الكئيبة وربما استيقظ ووجد أن رأسه مثقلة بخطايا الزمن وآثر النوم على أن يرهق قدمه المخمورة بتراب المعارك

استدرت لأغادر هذا المقهى المأهول بالوجع وبالأغنيات القديمة ، أغادر الحي وأودع المدينة التي تشبه معول الفلاح

هذه المدينة ليست لي

لم تكن يوما لي

لاتناسب قدمي

تؤلم بصري

كما أن أذني تتأذى من هذا الضجيج الفارغ

وحده كان المدينة جئت إليه ويوم فرُغتْ منه فرَغتُ منها

كنت قد استدرت تماما حين عبرني صوته الذي أعرف والذي أحب

قال : مريم ؟

قلت : لا .

رحلت منذ أن قلتَ  وداعا .

،،،،

لا أحد يدري لمَ نتوق إلى الأشياء بشراسة حتى إذا لم يكن بيننا وبينها إلا ابتسامة وربع خطوة

تركناها خلفنا ومضينا كما يترك الرصاص فوهة البنادق في ساحات الحروب .

بالمناسبة لكم أن تعتبروا النص هامشا

وحده الزمن يا أصدقائي ، متن الحكاية .