أحيانا, نجد أنفسنا نهرب من أشياء , وهي تلاحقنا بشكل غريب ! , كأن نغير الطريق بمجرّد لمح شخص من بعيد نحن لا نرغب في مقابلته , ثمّ يضعه القدر في طريقنا الجديد , فنقابله, ونسلم عليه ونتحدّث معه . أو نبذل ما بوسعنا حتّى نمتنع عن زيارة مكان لا نحبّه , ثمّ يسوقنا القدر إليه كلّ مرّة , دون حول منّا ولا قوّة...

ما الأمر يا تُرى' ؟ ,لابد وأن هناك مفاجأة في الغيب من وراء هذا , فجميل أن لا نتذمّر , بل ندع الأيام تكشف لنا ذلك !

هذه قصّتي مع الدروس الخصوصيّة , في أيّام دراستي بالثانوية , كنت أكرهها , لا لشيء , ببساطة : لأنّني أشعر أنّها تسرق منّي أوقات فراغي وراحتي , فرغم أنني كنت مجتهدة وأحبّ الدراسة , إلّا أنّي كنت أحب الراحة والفراغ كأيّ تلميذ سليم الفطرة .

في هذه المرّة , ألحّت عليّ صديقاتي الحاحاً عجيباً , قصد مشاركتهنّ في الدروس الخصوصيّة , وكنت أرفض بشدّة حدّ النرفزة أحياناً , وأخيراً , وافقت على حصّة واحدة في الأسبوع , وهي حصّة رياضيات ...

جاء اليوم الذي بدأت فيه ممارسة الأشياء التي لا أحبّها : - أستيقظ باكرا في يوم عطلة , - أتوجّه للدراسة في مدرسة غير مدرستي , - أدفع المصاريف في أمر أنا في غِنى عنه , ... جلستُ مع صديقاتي قرب باب المدرسة في انتظار فتحه , ونحن نتحدّث ونضحك , وفي داخلي بركان أخشى أن ينفجر , وفجأةً ! لمحت من بعيد فتاة قادمة , هي؟... لا ليست هي !... ماالذي سيأتي بها ؟! , قد تكون هي , هي ؟ ..وهي تقترب شيئا فشيئاً , نعم هي , تلك الفتاة التي كنت أقابلها في مجلس الذكر الأسبوعي , تلك الفتاة المثقفة كثيراً (كما يبدو من مشاركاتها ) , والتي تتزعّم المجلس وكأنّها كلّ شيء , تلك التي لا أطيقها أحياناً كثيرة , وأفتقدها في أحيان أخرى قليلة عندما تغيب عن الحلقة ...

أقبلت نحوي , تسلّم عليّ بحرارة وشوق , وأنا بادلتها نفس المراسيم ( طبعاً  ) , وجلسنا نتحدّث قليلا ,ثمّ عدت إلى صديقاتي وتركتها , ومضت تلك الحصة بسرعة , على عكس ما كنت أتوقّع , وعدت إلى البيت أشعر بشيء من التعب , والكثير من الحسرة على وقت فراغي الذي ضاع اليوم .

في الحصّة المقبلة أتت الفتاة نفسها , وفتحت معي هذه المرّة آفاقاً أخرى للحديث , رغم أنني لم أكن أشعر بشيء يجذبني إليها , إلّا أنّه شدّني أدبها الرفيع , وابتسامتها العريضة , وحوارها الراقي , وفكرها الواسع , فأصبحت أحترم فيها كلّ هذا , وأحترمها لأجل هذا , وتوالت الأيام وتوالى لقائي بهذه الأخت مرة كل أسبوع , أصبحنا نجلس بجوار بعضنا , نستمتع بحلّ التمارين سويّا , ونتحدّث كثيرا عن كلّ شيء , وحين يطرق الأستاذ على مكتبه , يصمت الجميع , إلا نحن , فتتحول فوضى كلماتنا إلى صرير أقلام , وضحكات وحكايات متناثرة على الورق , أصبحنا نتبادل الخواطر التي نكتبها , نفس الاهتمام , نفس الطموحات , نفس التفكير ... وجدت الكثير منّي فيها ...

لم يتغيّر شيئ بعد , 

فمازلتُ أستيقظ في الصباح الباكر يوم العطلة , لكنني أستيقظ بفرح ونشاط وشوق إلى لقائها ..

مازلت أدفع مصاريف الدرس , لكنني أدفعها بفرح وأحسبها صدقة القدر الذي جمعني بها ...

مازلت أدرس في غير مدرستي , لكنني أدرس في المدرسة التي تحتويها ...

كانت هكذا بداية الحكاية , بدايتي مع رفيقة عمري , وتوأم روحي " مريم " , كانت الأعمدة التي بنيت عليها صداقتنا بسيطة جدّاً , لكنّها متينة جدّاً أيضاً : - لقاء أربع ساعات في الأسبوع { الدرس الخصوصي } 

                                                         - 3 دقائق المجانية التي كانت تمنحها شركة موبيليس لمستخدميها 

                                                         - هواتف أماهاتنا + هاتف جدّتي 

                                                         - زهرة بابونج ( عربون صداقة )


** ممّا تعلّمته هنا : 

- جميل أن أفعل الأشياء التي أحبّها , لكن الأجمل أن أحبّ الأشياء التي أفعلها .

-القدر لا يخذلنا , ولا يخيّبنا , فهو يأتينا بكلّ جميل من الله تعالى

- لا نرى تغيّر العالم من حولنا , إلّا إذا تغيرت أحاسيسنا ومشاعرنا تجاه هذا العالم .