قصة قصيرة النص، طويلة العمر!

أولًا: النهاية!

((امجاد يا عرب ** أمجاد!!))

((ارفع رأسك يا أخي .. ها هو قد شعشع نور الخلاص ولعـلع صوت الرصاص!!))
(( هل رأى الحبُّ سُكارى .. سُكارى .. مثـــلنا!؟))

((ويلك يالي تعادينا .. ويلك يا ويل!!))

((الأرض بتتكلم عربي.. الأرض!.. الأرض!))

((صح يا رجال!؟.. آيوه صح!!))

((لو حكينا يا حبيبي نبتدي منين الحكاية!؟؟؟؟))

((ارفع راسك يا أخ العرب .. ها هي قد دقت ساعة النصر!))

((كم بنينا من خيالٍ حولنا .. ومشينا في طريق مُقمرٍ!))

((ها هي دقت ساعة العمل وساعة العدل فلا مهضوم ولا مغبون!))

((يا قايد مرحب بالجيّه .. نهدولك مليون تحيّه!))

((يا مسهر النوم في عينايا .. سهرت أفكاري وياك!))

(( السلطة والثروة والسلاح بيد الشعب والتمثيل تدجيل!))

(( وإن مات جمال عبد الناصر !ـ فكلكم جمال عبد الناصر!!))

(( وراقصني يا قدع !!))

(( فطوم، فطوم، فطومي** خبيني في بيت الموني!))

((ارفع رأسك يا يعربي! .. ولا صوت يعلو صوت المعركة!))

((لما بكره يجي البرد مالك غيري كانوني!))

((والسحن دحن بوه! .. الواد طالع للبوه ! ))

((وحدة.. حرية .. اشتراكية))

((آدي الربيع عاد من تاني .. والفجر هلت أنواره))

((حرية .. اشتراكية .. وحدة))

((وفين حبيبي إللي رماني .. من جنة الحب لناره))

((اشتراكية.. وحدة.. حرية!))

و((طز في أمريكا!!، وليخسأ الخاسئون!!))

((ماما زمنها جيّه .. جيه بعد شويه!!))

((مش تونس وإلا قرينادا ** نحن شعب صعيب عناده))

((يا عيني الواد بيعيط .. الواد عطشان اسقوه))

((وطز في إمريكا!! وليخسأ الخاسئون!!))

((وامجاد ياعرب ** أمجاد!))

((ووووو .... يا ليل يا عين!... تي ري لا لم لم !!))

هكذا ظلت تتردد في رأسه المثقل بالهموم اليومية والاهتمامات القومية وخيبات الأمل الوطنية خطابات وصرخات زعماء العرب النارية مع أغاني نجوم الطرب الرومانسية! .. وتداخلت – باختلاط غريب وامتزاج عجيب – كلمات الأغاني العاطفية بالأناشيد القومية والأغاني الوطنية بالخطابات النارية والشعارات الثورية مع لعلعة صوت اطلاق الرصاص الحي في الجو، مع صوت هتافات وصيحات الجماهير الشعبية الهائجة المائجة الهادرة في الشوارع بكل حماسة وحميّة!!.. فحاول أن يغلق أذنيه بالوسادة لينام قرير العين دون جدوى!، فصدى لعلعة الأغاني والأناشيد والخطابات والهتافات والطلقات النارية واذاعة صوت العرب وصوت الجماهير وصوت الجماهيرية الخضراء العظمى واذاعة هنا لندن ظلت جميعًا تتردد - بزعيق تارة يشبه النعيق وتارة أخرى يشبه النهيق - في رأسه المثقل بالهموم الشخصية والاحباطات الوطنية بلا هوادة فتجعل ملك وسلطان النوم بلا أي سلطان!، هناك في (العليّة) يختبئ مرعوبًا في قصره المنيف خشية حصول انقلاب عسكري بشعار الوحدة العربية وتحرير فلسطين!!!

قال له صوتٌ مجهول الهوية بدا له كما لو أنه صوت (رجعي) عتيق من بقايا زمن الاحتلال والاستقلال كان يختبئ وراء الفص الأيسر من دماغه وهو يسأله مستفسرًا: "ماذا هناك يا رفيق!؟؟.. ماذا دهاك؟؟.. يبدو لي كما لو أنك تشعر بأن ثمة خطأ كبير (ما؟) في هذه القصة برمتها؟ أو ربما كمن تعرض لعملية نصب واحتيال!".. فأجاب بشيء من عدم المبالاة: "ربما! ، من يدري!؟؟".

قال الصوت: "ما بك تمشي مطأطأ الرأس وعيناك لا تفارق الأرض؟.. ألم تسمع خطابات الزعيم القايد الفريد وصقر العرب الوحيد حيث كان صوته يضج في كل الأرجاء وكل الميادين وهو يلعلع ويزمجر: ((طز في أمريكا!.. طز في بريطانيا!.. طز في العرب!!.. طز في العالم كله!!.. لن نستسلم!.. ارفع رأسك يا أخي .. ارفع رأسك يا مواطن إلى عنان السماء فأنت ابن الأماجد)).. ألم تسمع كل تلك الخطابات الشهيرة والمثيرة!؟".. فنظر بشيء من الضيق والامتعاض إلى شبح ذلك الصوت وقال له بضيق وتبرم: "بلى سمعت! .. سمعتها ألف مليون مرة وصدقت وأطعت!" .. قال الصوت متسائلًا: "إذن ؟" .. قال: "أما جاري (منصور) فقد كان أكثر حماسة وتفاؤلاً منّي فرفع رأسه على ما يبدو أكثر مما ينبغي، فانتهى الأمر به برفع رجليه على عصا الفلقة في قبو مبنى البوليس السياسي والأمن الداخلي ومنذ ذلك الوقت عرف أن الزعيم واحد وأن أمن الدولة حق!".. فصمت الصوت بصورة مبهمة في لحظات بدت كما لو أنها الدهر ثم سأله: "وأنت!؟ ماذا عنك أنت!؟؟".. قال: "فأما أنا فقد رفعت رأسي إلى العنان كما طلبوا مني .. فكان ما كان والله المستعان!!"

سأله الصوت في استغراب وفضول مستفسرًا: "وما الذي كان!؟".. فقال بشيء من السخرية الممزوجة بمرارة المهزوم وحسرة المصدوم: "لقد صدقتهم، أبناء الـ -- ، ورفعتُ رأسي إلى عنان السماء وأخذتُ أسير منتصب الهامة والقامة مُنتشيًا بخمرة أمجاد الماضي وأحلام المستقبل أكاد أهتز طربًا على صوت قرع طبول حرب تحرير فلسطين!.. ولكن كانت هناك " حفرة "!!.. حفرة كبيرة في طريقي .. حفرة ضخمة بحجم البلد لا أدري من حفرها! .. حفرة كبالوعة ضخمة لم أتفطن لها لأنني كنت رافعا ًرأسي أنظر إلى الأعلى بشموخ، مزهوا ً بساعة النصر التي دقت (!)، لم أرَ تلك الحفرة اللعينة ولا تفطنتُ لوجودها أصلًا، فكانت النتيجة أنني سقطتُ – بقضي وقضيضي - فيها (عقبًا على رأس) وانكسرت رجلي وعنقي وأصبحت كما ترى اليوم .. مواطنًا مُقعدًا ومشلولًا وعاطلًا عن الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري بل وحتى عن الإنتاج الفكري بل ولا حتى الانتاج الأدبي! كما ترى (شوفة عينك يا رفيق!)، بتُ مواطنًا شبه مذهول بل ربما انسانًا شبه مخبول يؤمن بعقيدة المؤامرة الأجنبية الماسونية الصهيونية العالمية الكبرى على العرب!.. انسانًا مسكينًا محطمًا ينتظر بين الاطلال قدوم المهدي المنتظر كي يملأ أرض العرب عدلًا بعد أن مُلئت جورًا، ويملأها نورًا بعد أن مُلئت ديجورًا، ويملأها عزًا بعد أن مُلئت ذلًا!، ويملأها علمًا بعد أن مُلئت جهلًا!" .. قال صاحبنا ذلك ثم ابتلع لسانه ولاذ بالصمت!... وعند هذا الحد قال ذلك الصوت مجهول الهوية بنبرة لا تخلو من الأسف: "آه !! .. الآن فهمت!".. قال ذلك ثم عاد فاختبأ خلف الفص الأيسر وتلاشى كما لو أنه (فص ملح وذاب!).. نظر صاحبنا ذات اليمين وذات الشمال في وقلق واضطراب متسائلًا عن سر اختفاء ذلك الصوت بهذا الشكل المباغت غير المفهوم؟؟؟!.. وداهمه الشك وساوره وحاصره من كل مكان وهو يرمقه بنظرات رهيبة ومريبة يقف لها شعر الرأس!، وعندها خطر في باله وهو في أوج حيرته بأنه ربما يكون صاحب هذا الصوت يعمل مخبرًا مقابل أجرة لدي (الجهات المعنية!؟) فشعر بخوف بلغ به حد الذعر فتدحرج على الفور من على الفراش حتى سقط أرضًا ثم اختبأ تحت السرير كما كان يفعل في طفولته حينما كان أبوه ينفجر من شدة الغضب لسبب تافه ويجن جنونه ويلتقم السوط ليضرب ويجلد كل من يرميه حظه العاثر في طريقه بلا تمييز بين ظالم ومظلوم مرددًا بصوت عال وغاضب في جنون مطبق: ((العقوبة تعم، والمثوبة تخص يا أولاد الكلب!!!!).

***
أخيرًا: البداية!!

------------------------

سليم نصر الرقعي 2018

(*) هذه المقالة هي مقالة منقحة ومزيدة للنسخة الأصلية التي نشرتها عام 2006 في منتدى (ليبيا الحرة).