بسم الله الرحمن الرحيم
1
اذا شَعَــر شخصٌ ما بأن حياته تافهة ؛ لا قيمة لها و لا معنى ، و أن المعنى و القيمة في حياة أخرى مطلوبة ، و لكن هذه الحياة المطلوبة صعبة المنال – خاصة اذا كانت حياة يتطلب بلوغها تغييرات عميقة و شاملة و بطيئة على الصعيد العام ؛ تغيرات لا طاقة له بصناعتها كفرد - فان هذا "الانسان" قد يقـف حائراً كئيباَ على مفترق من الطرق :
فوراءه مباشرة تقف هذه الحياة التي يشعر بأنها فارغة ؛ و انها تستـنزفه بتفاهاتها اللامتـناهية ، فتـَـقـتُـل - امام عينيه - طموحاتَه و احلامَه ، بلا رحمة .
و أمامه تتراءى لعينيهِ المُرهَـقـتـين ، خياراتٌ مُرَّةٌ مُحْزِنَة :
فأما الاستمرار في هذه الحياة المفروضة ، المرفوضة ، مع استمرار التعلق بحلم التغيير صعب المنال ، و هذا يعني الصراع في كلِ ثانية ، بين واقعهِ المرير ، و بين احلامِه اللذيذةِ. و هذا قد يؤدي – في بعض الحالات و لبعض الاشخاص - الى انحرافات سلوكية ، أو الى اضطرابات نفسية ، أو الى غير ذلك من المصائر المحزنة .
و أما - الخيارُ الآخرُ - : أن يقذفَ بأحلامِه في قلبِ طاحونةِ الحياةِ المتوحشةِ لتطحنها مرةً واحدةً و يرتاح . و عندها يغـدو كائناً يضافُ الى شجرةِ الكائناتِ الحيةِ التي يرسمها علماءُ الاحياء ؛ كائناً كالأميبا و القطط ، و حتى ، وحتى الكلاب . أجلكم الله .
و لكن هذا الانسان يرفض هذين الخيارين كليهما ، و لا يقبل مطلقا بنتائجهما ، و هذه هي معضلته : فهو يرفضُ الاستمرارَ على هذا النمطِ من الحياة ، يرفض الاستسلام لها ، و في ذات الوقت – و لأسباب كثيرة - لا يمكنه التوقـف ، أو التغـيير . فيستمر التشتت بين ما يأمل و ما يفعـل ، بين الحلم و بين الحقيقة ... و هذا يرهـقـه ، يستنزف طاقاته ، يحيره ، يحرق اعصابه ... فما هو الحل ؟ كيف يكسر هذه الحلقة الجهنمية ؟
قد يلجأ بعض الاشخاص الى الزهد ، لكن الزهد لا يختلف - في النتيجة - عن الاستسلام ؛ عن التخلي عن الاحلام و الطموحات ، و هذا ما لا يقبله صاحبنا . فما هو الحل ؟
قد يفر الى ملجأٌ مؤقت ، قد يتحصن بحصانِ طروادة الذي قد يحميه من التشتت المعذِّب، من المصائر المؤلمة . هذا الملجأ هو " فعل الكتابة " ( سيتضح في الفقرة التالية لماذا قلت فعل الكتابة ) فالكتابة – و أعني الكتابةَ الأصيلةَ الابداعية ، التي يُكـتَـب لها الخلود - هي – بمعنى من المعاني على الاقل – ابنةُ المعاناة ؛ فخلال سنواتِ الشقاءِ الطويلة ، تتحول المعاناةُ عند بعض الاشخاص الى حروفٍ و كلماتٍ و جمل ، تتخبط بعنفٍ في مراجلِ عقولهم ، و مواقدِ نفوسهم ، و قد تكون هذه الحروفُ و الكلماتُ و الجملُ ضبابية ، فلا يستطيعون التقاطها واضحة ، نعم ، قد يطاردونها من حينٍ لآخر فيصطادون منها ما استطاعوا ، و يحاولون ترتيبها ، كما يرتبُ المرءُ أجزاءَ صورةٍ ممزقة ، ثم يعرضونها على الورق ، فيشعرون بشيءٍ من الراحة ، و لكنها راحةٌ مؤقتة ، يقطعها استمرارُ الغليان في مراجلِ نفوسِهم و عقولِهم ؛ فالصورة لم تتضح لهم بعد . و قد تحملهم هذه الضبابيةُ في الافكار ، و الشعورُ بعدم الرضا ، او عدم القناعةِ بما يكتبون – اضافة طبعا الى معاناتهم اليومية التي تستنزفهم - الى العزوفِ عن الكتابة ، لكن المفارقة ان استمرارَ المعاناة يؤرقُـهم و يُـقـلِقُـهم و يعذبهم ، فيدفعُهم دفعاً الى مفترقِ الطرقِ اللعين ، و يدفعهم ايضا الى الكتابة ؛ فالكتابةُ عندها – وهم على مفترقِ الطرقِ البائسةِ هذا – تصبح ضرورةً وجودية ، تصبح الكتابةُ حصنهم و ملجأهم الذي يحاربون من خلاله ، الذي يرابطون فيه حتى يعثرون على طريقٍ آخر ، أو ، حتى يشقون لأنفسِهم طريقاً آخر .
2
اذن - و لو بشكل مؤقت ، و جزئي - تخفف الكتابةَ من احتقانِ نفوس هؤلاء الممزقين - المشتتين بين واقع مرفوض ، و واقع مأمول - و تهدئ من قلقِ ارواحهم ، ان الكتابةَ تحررهم من ضغوطِ الافكارِ المضطربةِ الضبابية ، و من الحاحِ المشاعرِ السلبية ...
و هي - بالإضافة الى دورِها النفسي هذا – لها دورٌ تنويري ؛ فالكتابة – و نحن نتحدث هنا عن الكتابة الابداعية - فعلُ تفكيرٍ و نقدٍ بامتياز ؛ فهي حقلٌ خصبٌ للمراجعات ؛ نتأمل من خلالِها أنفسَنا و عالَمَنا ، فنعدل تصوراتـنا و نحذف منها و نضيف اليها . انها تخرجنا من دائرةِ الكائناتِ البيولوجيةِ لتـنقـلنا الى فضاءِ الانسانية ، فنحن – و نحن نتأملُ و نمارسُ التفكيرَ الناقد كتابة – نتمرد على التـقـليدِ و التلقين ، فنحاسب السلطاتَ كلها على ما تقول : نحاسب العائلةَ و القبيلة ، نحاسب الحزبَ و الدولة ، نحاسب الشيخَ و الاستاذ ... نخلخل استقرارَهم و نهدده ، و نطالب بدورنا المسلوب في القبول و الرفض ... و بهذا نغـدو بشرا ساعـين الى "الاكتمالِ الانساني" – و العبارة لفريري – هذه الانسانية المنقوصة بفعـلِ الرضوخ للمؤسساتِ و السلطاتِ الاجتماعيةِ المهيمنة .
ان الكتابةَ الاصيلة الابداعية اذن فعلُ تحريرٍ و تنوير ، و بالتالي فعلُ تغـيير ، لها دورٌ نفسي سلوكي ، و لها دورٌ اجتماعي ، و هي – في الحالتينِ – فعل ، فعلٌ يقربنا من انسانيتنا المسلوبةِ المغـتصبة .
انها فعل يشعر من خلاله الانسان الذي وصفنا حاله - الانسان الممزق المشتت ، الذي اصبح يناضل من أجل تغيير واقعه بفعل الكتابة - يشعـر بأنه ذو قيمة ، و أن لحياته معنى ، و أن هناك أملا ، فيحافظ على توازنه و تماسكه ، و يحافظ على انسانيته .
3
نستطيع ان نقول اذن : ان الكتابةَ قراءةٌ فاعلةٌ واعيةٌ للنفسِ و الواقع ، يصبح الكاتبُ الممارسُ لها قارئاً فعالا ؛ يصبح منتجاً مناضلا و ليس مستهلكاً سلبيا يتلقى ما يمليه الآخرون عليه . بهذا المعنى علينا جميعاً ان نغدو كُـتـَّـابا ، لان علينا جميعا ان نغـدو كائناتٍ انسانيةٍ فعالة منتجة ، و لكن هل هذا ممكن ؟
لقد اسلفنا ان الكتابةِ الابداعية بنتُ "المعاناة" ، و في حالتنا كانت المعاناة متجسدة في الشعـور الملح بتفاهةِ الحياةِ المفروضةِ علينا ، بلا معناها ، و عما يصاحب ذلك من قلق فكري و مشاعر منهكة . فكم من الناس يشاطروننا هذا الشعـور و هذه الافكار ؟ ان ثمنَ هذه المشاعر و الافكار فادحٌ جدا ، ان ثمنها انعدام الراحة و الاستقرار ، الحيرة و القلق ... فكم من البشرِ يستطيعون دفعَ هذا الثمن الباهظ . ان البشرَ حتى لو شعـروا و فكروا كما يفكر "الرافضون" فسيلفظون هذه المشاعر و الافكار بسرعةٍ كبيرة ، و سيستأنفون حياتَهم الطبيعيةَ الاعتيادية – او التي قـِيل لهم انها طبيعية – مريحينَ نفوسَهم و عقولَهم من عناءِ التفكير . ان البشرَ – و هذا مفهوم تماماً – يبحثون عن الراحةِ و المتعة ، و قلةٌ هم اولئك الذين يـقـدمون راحتهم قرباناً على ضريحِ الانسانية .
و هذه "الفئة القليلة " – و منهم النموذج الذي حاولنا وصفناه - تحمل شيئا من صفات : " الغرباء" الموصوفين في النصوص الاسلامية ،
و بعض صفاتها تذكرنا بـصفات " المغتربين " حسب التحليل الماركسي،
و تذكرنا صفاتها أيضا ، بصفات " اللامنتمين " التي تـتبعها " كولن ولسون " في نصوص الادب الغربي .
4
ان "الغرباءَ" مصطلحٌ اسلاميٌ نبوي ؛ انهم – حسب النص - ( الذين يُصْـلِحون اذا أفْــسَدَ الناس ) ان هذا الوصف يضمر رفض الغرباء لواقعهم ، لكن هذا الرفض لم يدفعهم الى الانغلاق بل الى العمل ، الى النضال من أجل تغيير هذا الواقع الاجتماعي . و هذا هو الفرق الجوهري الذي يجعل " الغريب الاسلامي " مختلفا عن " المغترب الماركسي " و " اللامنتمي الولسوني " – نسبة الى كولن ولسون صاحب كتاب اللامنتمي و ان كان يبدو مسبوقا الى هذه التسمية فمثلاً في روايةِ هرمان هسه " العجلة " - و هي رواية تتحدث عن طالب داسته عجلات السلطات الدينية و التعليمية و غيرها - وردت مفردة "اللانتماء" - فالمغترب الماركسي و اللامنتمي الولسوني غالبا حائران ، قـلقان ، يائسان ، لا امل لديهما في امكانية التغيير الاجتماعي . و هذه المشاعر و المعتقدات فَصَلَـتْـهما عن الواقع .
طبعا يدعونا ماركس الى اجراء تغييرات جذرية ثورية في المجتمع الراسمالي الذي يعتبر أن نظامه الظالم ، الاستغلالي ، اللا انساني، سبب في اغتراب الانسان في عالمنا الحديث و المعاصر . لكن من الذي يثور ؟ هل يثور المغتربون ؟ اظن ان الاجابةَ تختلف باختلافِ درجة الاغتراب بين مغـترب و آخر ؛ باختلاف عمق اليأس الذي وصلوا اليه ، باختلاف ارتفاع الجدران التي شيدها كل منهم بينه و بين المجتمع ...
اما كولن ولسون ، فَـيَـفْهَم القارئُ لكتابه أن " مشكلة اللامنتمي " مشكلة شخصية نفسية سلوكية ، و تعالج علاجا شخصيا نفسيا سلوكيا روحيا في الدرجة الاولى . و هذا لا يعني انه لم يذكر المجتمع الغربي بسوء ، و لكنه مجرد "ذكرٍ" فقط ، و هذا لا يقارن بالنقد الاسلامي العميق الشامل للمجتمع الانساني ، و لا يقارن بالنقد الماركسي الشامل و العميق للمجتمع الرأسمالي ، بل ان " كولن ولسون " ، عندما ذكر المجتمع الغربي بسوء ، ذكر الماركسية كمتهمة بترويج هذا السوء ( رفضها للدين باعتباره غير عملي كما قال ) ..
الخلاصة أن القلة التي وصفنا ، القلة الرافضة المُمَزَقَة المناضلة في سبيل التغيير – سواء كان نضالها بالكتابة ام بغيرها – تشبه " الغرباء " في العمل من أجل صلاح الواقع الفاسد ، و تشبه " المغتربين " و اللامنتمين " في قلقهم و حيرتهم ، و أحيانا في يأسهم . و بهذا تتأرجح هذه القلة من الناس بين الغربة و الاغتراب ، بين الأمل و اليأس ، بين الخوف و الرجاء ، تعمل و تناضل و تطالب بالتغيير ، و أحيانا تـنسحب و تعـتـكف و تطالب بالهدوء .