وادي السليكون ذلك الاسم الساحر الذي سيطر على أحلام المهتمين بالتنمية الاقتصادية وريادة الأعمال لتأسيس أماكن شبيهة به في بلدانهم  أطلقه الصحفي دون هوفلر عام ١٩٧١ على عموده الأسبوعي في جريدة الأخبار التجارية الإليكترونية وذلك إثر ماشاهده من انتشار لشركات الصناعات الإلكترونية في منطقة جنوب سان فرانسيسكو إثر الدعم الذي تقدمه جامعة ستانفورد لاجتذاب رواد التقنية إلى منطقتها. ففي البدء كانت اتش بي ( أم وادي السليكون) ثم جاء وليام شوكلي،عضو الفريق الذي ابتكر الترنزستور ، للعيش هناك قريبًا من والدته فأحضر معه السليكون للوادي وأسس معامل شوكلي لأشباه الموصلات. سوء إدارة شوكلي وسريته المفرطة في التعامل مع موظفيه دفعت ثمانية من أكفأ المهندسين إلى ترك العمل معه ليؤسسوا فيرتشايلد عام ١٩٥٧ فسماهم شوكلي بالخونة الثمانية.  تفكك المعمل إثر هذا النزف والتحق شوكلي بجامعة ستانفورد أستاذًا للهندسة الكهربائية.

أحد "الخونة الثمانية"  الذين أسسوا فيرتشايلد كان روبرت نويس الفيزيائي ورجل الأعمال ومحفز الابتكار الذي ساهم في تصنيع الترانزستور بطريقة رخيصة ذات اعتمادية عالية كما سهل من توصيل الترانزيستورات ببعضها مما مكن من ابتكار المايكروتشيب. تلقفت الصناعات العسكرية ذلك الابتكار واستخدمته في أنظمة مينيتمان الصاروخية فقفزت أرباح فيرتشايلد السنوية من ٥٠٠ ألف دولار إلى ٢٠ مليون دولار.  في مقال له في مجلة الإلكترونيات تنبأ قوردون مور، وهو أحد الثمانية، بأن الدوائر الإلكترونية ستستوعب ضعف عدد الترانزستورات و سيتضاعف تعقيدها سنويًا فتنمو بشكل أسي مما يعني تقلص حجم الترانزستوز إلى النصف سنويًا فنتج بذلك قانون مور الشهير. قوة قانون مور ليس في توقع أعداد الترانزستورات بل في التبشير بظهور عصر اقتصادي جديد تتطور فيه التقنية بشكل أسي متسارع دون زيادة في أسعارها.

لم تنج فيرتشايلد المكتظة بالمواهب مما حدث لمعامل شوكلي فتفككت هي الأخرى ونتج عن ذلك ظهور ثلاث شركات هي شركة أميلكو لتصنيع الرقائق الإليكترونية وشركة كلاينر بيركنز للتمويل المالي و شركة الرقائق الإلكترونية الأشهر انتل فكان بذلك الميلاد الفعلي لوادي السليكون. لم تسلم إنتل التي أسسها قوردون مور وبوب نويس عام ١٩٦٨  لتصنيع رقائق الذاكرة DRAM من الهزات شبه المدمرة. فقد تخلت عن تصنيع رقائق الذاكرة عام ١٩٨٦ بعد أن تفوق عليها اليابانيون مما  نتج عنه  فصل آلاف الموظفين و بيع آلاف المنازل وتفكك الأسر. لكن انتل نهضت من جديد واتجهت لتطوير المعالجات التي كانت تعمل عليها كمشروع جانبي حتى سيطرت على حوالي ٨٥٪؜ من سوق المعالجات خلال التسعينيات.

 رغم ظهور شركات الانترنت ثم انهيار أعداد كبيرة منها ضمن مايعرف بفقاعة الدوت كوم في أواخر التسعينيات وبداية عام ٢٠٠٠ إلا أن المارد كان قد خرج من القمقم فصعدت بعد ذلك منصات الدفع الإلكتروني التي تسيدتها بي بال فحركت التجارة حيث أصبح التحويل المالي لحظيًا والبيع والشراء أسرع ونتجت بالتالي حركة تجارية  أقوى فولدت التجارة الإلكترونية وازدهرت هذه الشركات وازدادت قيمتها السوقية بشكل ضخم نتج عنه بيعها بمبالغ هائلة مما ولد جيلاً جريئًا من رواد الأعمال المتعطشين لبداية مشاريع جديدة وتمويل أفكار جديدة.فعلى سبيل المثال شركة  بي بال للمدفوعات الإلكترونية بيعت ب ١.٤ بليون دولار فأنشأ ملاكها السابقون شركات تصل قيمتها مجتمعة إلى  ١٠٠ بليون دولار من ضمنها انستقرام ويوتيوب ولينكد إن وتسلا وسبيس إكس.

انهيار شركة شوكلي وفيرتشايلد وغيرها تولدت عنه عشرات بل مئات الشركات في وادي السليكون وأصبح من المتعارف عليه هناك أن تنشأ شركة وتنمو ثم تتفكك وينتشر أفرادها في الوادي فينضموا لغيرها أو يؤسسوا شركاتهم الخاصة .كما لم يكن هناك مايمنع من تنقل الموظفين بين الشركات وقتما شاؤا، فولاية كاليفورنيا تمنع وجود بند في عقد الموظف يمنع حد المنافسة مما أتاح للمواهب التنقل بين الشركات وإثرائها بقدرات مختلفة النكهات دون خوف من المقاضاة مما ساهم في استمرار هذه الظاهرة حتى الآن رغم محاولة بعض الشركات الالتفاف حول هذا القانون بالسر. فقد اكتشف قريبًا تآمر بعض عمالقة وادي السيليكون مثل قوقل وآبل وغيرهم على عدم استقطاب موظفيهم مما تسبب في مقاضاة هذه الشركات التي لم تدرك أنها بتآمرها قد تقضي على أهم مميزات هذه البيئة التي ساهمت في نشأتها وازدهارها.

مع زيادة عدد الشركات في الوادي بدأت ظاهرة الاستحواذات بينها ليلتهم الكبير الصغير مثل قووقل ويوتيوب ومؤخرًا فيسبوك وانستقرام وواتس آب وغيرهم كثر ..قد يبقى بعض المؤسسين في الشركة بعد الاستحواذ عليها لبعض الوقت ثم يغادروها مثل ماحدث مؤخرًا من مغادرة مؤسسي انستقرام وواتساب لفيس بوك، الشركة التي استحوذت عليهم وأدخلتهم نادي الميارديرات، أو يتركوها مباشرة سعيًا وراء فكرة جديدة ليعود بشكل مبتكر للساحة. 

لم يكن نمو شركات وادي السليكون تصاعديًا دائمًا  بل مرت بمراحل ازدهار وانهيار متكررة سواءًا كان ذلك بالتفكك الذاتي لعدم التوافق أو جراء المنافسة اليابانية في الثمانينيات وفقاعة الدوت كوم على رأس الألفية ولكنه في كل مرة يعيد الوادي ابتكار ذاته ويستعيد حيويته عقب كل كبوة وينمو من جديد.  هذا المكان الساحر لا يمكن توقع استجابته للمتغيرات مما يصعب نسخه بتقليد محتوياته الظاهرية فقط وذلك لتعقيد العناصر المؤثرة فيه وتفاعلها بشكل غير متوقع مما قد يبقي وادي السيليكون عاصمة للتقنية الإلكترونية لسنوات طويلة.