الإختلاف عبارة عن سُنة كونية ذُكرت في القرآن الكريم عدت مرات و في مواضع مختلفة . قال الله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و انثى } هنا يقر القرآن بالإختلاف الاساسي بين الجنس البشري . { و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا } و هنا يقر بإختلاف الحضارات و الثقافات . { و اختلاف السنتكم و الوانكم } و ايضا ً اقر بإختلاف اللغات و الاجناس . و لكن عندما نقرأ النصوص التي تخص تعامل الانسان مع هذه السُنة الكونية { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } و ايضا ً { و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصحلوا بينهما  } نجد في تعامل الانسان مع الاختلاف مصطلحات مثل ( عدم الرضى ) و ( التقاتل )  فالإشكالية في الاختلاف نابعه من الانسان و ليس من اصلها ، و ما الانسان إلا ( عقل و النفس ) و هما وجهان لعملة واحدة علميا ً . إذا ً« إشكالية الاختلاف » هي إشكالية نفسية ، و لكي نستطيع ان نفهمها و نحللها من اجل محاولة حلها او التخفيف من اضرارها علينا ان ننظر الى تركيب العقل و النفس البشرية.

- كم حقيقة توجد في هذا العالم ؟؟ …

الاساس و القاعدة التي يُبنى عليها كل خلاف شخصي هو إعتقاد كِلا المتخالفين انهم على حق و ان الاخر كلامه على باطل ، و هذا ما يسمى ( بالمنطق القديم ) . يقول الفيلسوف الالماني فرديناند شيلر في وصف المنطق القديم : ” ان الحقيقة في ضوء المنطق المطلق واحدة ، و الآراء يجب ان تكون متفقة . فأنت إما مع الحقيقة او ضدها . فإذا كنت ضدها فأنت هالك . أما إذا كنت مع الحقيقة فليس لأحد ان يجرؤ على مناقضتك . إنك محق إذا غضبت على أولئك الذي يجادلون في الحقيقة ” . و إني ارى في وصف هذا الفيلسوف وصف دقيق لحالتنا العربية و كأنه عائش بيننا وهو قد توفى منذ اكثر من ٧٠ سنة !!!

فالسني يرى في سنيته الحقيقة و البقية هالكون ، و الشيعي يرى في تشيعه الحقيقة و البقية هالكون ، و الليبرالي يرى في فكره الحقيقة و ان لم نعمل بها فسنهلك ، و ما رأينا الهلاك إلا من هذه الافكار البالية !!!

قال الدكتور علي الوردي في نقده للمنطق القديم : ” إن من الظلم حقا ً ان نعاقب الناس على عقائدهم التي لقنوا بها في نشأتهم الاجتماعية . و المنطق القديم مبني على اساس ان الانسان يعتنق عقيدته بإرادته ، و انه يصل إليها عن طريق التفكير و الروّية . و هذا خطأ يؤدي إلى الظلم في كثير من الاحيان . ” ( ظلم ) لان العقائد في مجتمعنا تورث ولا تكتسب ، و عقاب الشخص على عقيدة موروثة اشبه بعقاب الشخص على ذنب لم يرتكبه .

كتب الاستاذ هنري توماس في كتابه Living Words Of Philosophy : “ ان المنطق القديم هو منطق العقائد الموروثة لا منطق المعرفة النامية ” . دعونا نوضح اكثر الفرق بين ( العقائد الموروثة ) و ( المعرفة النامية ) …

يولد الانسان في هذا العالم و يُعلم من قِبل والديه بأن دينهم الذي يدينون به او معتقداتهم التي يؤمنون بها هي الطريق إلى الجنة في الآخرة او الدنيا ، فيتحول هذا الطفل الى احد الحرس اللاواعي لهذا الدين او المعتقد ، و هذا ما يقصد به هنري توماس ب ( العقيدة الموروثة ) و هنا يكون المنطق القديم في أوْجِه . فهذا الشخص لا يرى الحقيقة إلا في كلامه ، و إذا اختلفت معه غضب عليك و طالبك بأن تحكم المنطق و كأن المنطق نزل من السماء منقوشًاعلى لوح حجري موافقًا لهواه !!!

اكمل الدكتور علي الوردي حديثه عن اثر ( العقيدة الموروثة ) على العقل : ” العقل البشري مغلف بغلاف سميك لا تنفذ إليه الأدلة و البراهين إلا من خلال نطاق محدود جدا ً و هذا النطاق الذي تنفذ من خلاله الادلة العقلية مؤلف من تقاليد البيئة التي ينشأ فيها الانسان في الغالب . و هذا ما أسميته في احد كتبي السابقة بالإطار الفكري . فأنت إذا جئت للإنسان بأقوى دليل تريد ان تقنعه على رأي يخالف تقاليده و مألوفاته السابقة ، لوى عنك عنقه وعدّ دليلك سخيفا ً او غير معقول “ 

بينما ( المعرفة النامية ) و إن كانت لا تخلو من توريث لافكار و المبادئ من الاهل و المجتمع - فالطفل في عمر التلقي لا يستطيع التفريق بين الافكار حسنها و سيئها - إلا ان مصدر المعرفه يكون شخصي و يكون عقله اكثر تقبُلًا للافكار الخارجة عن المألوف في مجتمعه و بيئته ، فهذا الشخص يرى ان الحقيقة قد تكون عند الجميع ، فتراه يقرأ لهذا السلفي و ذاك الليبرالي و يجد شيئًا من الحقيقة عند كليهما ، مع ان كتاب الاول لا تخلو كل ٣ صفحات منه من اقتباس لابن تيمية و الثاني كتابه مدجج بأقوال جان جاك روسو و جون لوك . و هؤلاء هم اصحاب المنطق الجديد .

يرى كارل مانهايم احد رواد مدرسة المنطق الجديد بأن “ الحقيقة ذات أوجه متعددة “ بعكس المنطق القديم الذي يرى “ الحقيقة واحدة “ . و في محاولة للدكتور الوردي لتبسيط فكرة مانهايم .. “ يمكن تشبيه الحقيقة بالهرم ذي الاوجه المتعددة . فالمفكر ( المقيد اجتماعيا ً ) يركز نظره عادة على وجه واحد للحقيقة و يهمل الاوجه الاخرى . إنه مربوط في مكانه بسلاسل قوية من التقاليد و المفاهيم المألوفة . وهو لذلك لا يستطيع ان يتحرك يمينًا او يسارًا إلا ضمن حد محدود . أما المتحرر فهو قادر على الحركة قليلاً  او كثيرًا . و يزداد اقترابه من الحقيقة الوسطى كلما امعن في حركته ذات اليمين و ذات الشمال . “

فالمتحرر من تلك القيود يستطيع ان يرى ان المعتقدات التي يؤمن بها الاشخاص الآخرين ماهي إلا حقيقة ، فالجميع محق بحسب ما يرونه في هرم الحقيقة . وما النقاشات التي نخوضها إلا نقاش بين حقيقة و حقيقة اخرى .

- كيف يمكن للعقيدة الموروثة أن تؤثر على حدة الاختلاف ؟؟ …

إن الشخص صاحب ( العقيدة الموروثة ) الذي لُقن و آمن بعقيدته او فِكرِه بشكل غير واعي ارتبطت [ نفسه ] مع تلك [ العقيدة ] او ذاك [ الفكر ] حتى اصبحا كيان واحد و هنا تكمن المشكلة . فهو لا يستطيع الآن ان يُفرق ما إذ كان الهجوم / النقد على نفسه او عقيدته و في كلا الحالتين سيأخذ المسألة بشكل شخصي ، و سيقوم بالدفاع عن معتقده او فكرته و كأنه يدافع عن نفسه !! فإذا انتقدت شيخا ً قضى عمره وهو يبجله فإن كنت امامه فاستعد لتلقي اللكمات و إن كنت خلف شاشة الجوال فاستعد لتلقي اللعنات .

بينما نجد الشخص صاحب ( المعرفة النامية ) الذي آمن بعقيدته بشكل واعي يستطيع   ان يُفرق بين [ نفسه ] و [ عقيدته ] . عندما يُنتقد معتقده تجده أقل حدة في الدفاع عنه من صاحب العقيدة الموروثة ، فهو لا يشعر بالتهديد النفسي مثله . بل تجد في هذا الشخص المرونة عند النقاشات فهو يُقنع تارة و يقتنع تارة أخرى ، و إن لم يقتنع أحد من النقاش خرجوا دون أن يخسروا اسنانهم او كرامتهم .

ولا ينكر أحد الجانب الإيجابي للاختلاف - خصوصًا بين اصحاب المعرفة النامية - و أنه السبب في التطور و التنوع في كافة المجالات المعنية بالحياة الانسانية إذا ما قام على أساس مبدئي لا شخصي .   فالاختلاف بين بيل غيتس و ستيف جوبز إختلاف مبدئي نتج عنه التنوع التكنولوجي الذي نشهده الآن في عصرنا. و الاختلاف بين توماس أديسون و نيكولا تيسلا أيضًا إختلاف مبدئي نتج عنه تطور في العلوم الكهربائية. وما المذاهب الفقيه إلا إختلافات مبدئية بين الشيوخ . والقائمة تطول . فالتنوع الثقافي و الفكري شيء أساسي في كل مجتمع ، و المجتمعات ذات الصبغة الواحدة لن تتطور و تلحق ببقية المجتمعات المتطورة . 

لعوامل و اسباب كثيرة تجد أن اغلب العقائد التي يؤمن بها الناس في مجتمعنا موروثة و ليست مكتسبة مما كون جيش غير واعي لكل عقيدة او مذهب يرى ان الحقيقة عنده ، وهو على اتم الاستعداد لتدمير العقائد و المذاهب الاخرى الباطلة . و مع التنوع و التعدد الثقافي في المجتمع تعددت الجيوش اللاواعية و اصبحت الساحة الثقافية في حالة حرب شعواء كر و فر بين هذا و ذاك . و هذا ما أطلق عليه ( إشكالية الاختلاف ).

نحتاج الآن إلى غرس مفاهيم المنطق الجديد في مجتمعنا و ان نعرف ان الحقيقة ليست ملك خاص لأحد و إنها للجميع . علينا ان نجعل خلافاتنا مبنية على أسس مبدئية لا شخصية . علينا ان نراجع ما ورثناه من افكار و معتقدات . علينا ان نُحكم تصرفاتنا للقرآن والسنة ثم الانسانية ، فإن شُوه فهمك للقرآن و السنة لن يقوى أحد على تشويه إنسانيتك ، فإن كنت تعتقد ان اضطهاد المختلف عنك في الديانة من الاسلام بسبب فهمك الخاطىء لنصوص القرآن و السنة فأعلم انت أنسانيتك ستمنعك عن مثل هذه الاعمال .

يُقال “ فقط الغبي يعتقد أنه سيحل مشاكل العالم “ .. فاسأل الله ان يكون غبائي هذا شفيعًا لي يوم القيامة