يقول ماركيز: يُقاس تَقدم الأمم بسرعة أبطأ أفرادها، وتوجّه Apple مُنتجاتها لمَن هُم في الطليعة، ألا تعتقد أنك حين تَمنح الفرصة لأبطأ الأفراد بأن يمتلك ما تمتلكه الطليعة فإنك بذلك تجعل رَكب الحضارة يسير أفضل؟

مايكل ساندال إذ يسألك: إن كُنتَ تملك أسوأ وأفضل آلة موسيقية في هذا الكون، فهل ستمنح أسوأ آلة لأفضل عازف، وتمنح أفضل آلة لأسوأ عازف تحقيقاً للعدالة، أم ستمنح أفضل آلة لأفضل عازف؛ ليُخرِج معزوفته العُظمَى فيفيد البشرية الإفادة القصوى وليذهب أسوأ عازف للجحيم؟

الدوائر الفلسفية التي لا تنتهي، والقياس الأرسطي الذي يفقد حجّيّته بين الاختلافات البينية في كل مثال، وهل الموسيقى كالحقوق الأساسية؟ وهل الرفاهيات الأخرى كحاجتنا للفن؟

هل من الواجب علينا أن نحصل على حياةٍ جيدة بعض الشيء حتى نستطيع الإنتاج والإبداع، أم عليك أن تُنتج وتبدع حتى تنال الحياة الجيدة؟ وإن كانت الثانية: فكيف أستطيع أن أُبدِع وأنا لا أملك أساسيات الحياة!

التجارب الماضية حسمت أسئلة كهذه، والضرورات الحياتية والمعادلات الاقتصادية حسمت البعض الآخر، إلا أن حسمها كان اتجاهاً واقعياً لا يعني بالضرورة أنه المُعبر الأمثَل عن الاستحقاقية.

سوجانا ميترا – الفائز بجائزة مؤسسة TED – وضع حاسوباً عليه معلومات ضخمة عن موضوعات متعددة من ضمنها الـ DNA وتركه للأطفال في حائط بالشارع، فعاد ليجدهم قد توصلوا لتحليلات تحتاج أشهراً من طلبة الجامعة، بينما حين يمنح الأب ابنه أفضل الأجهزة الإلكترونية تجده من فوره يسبح بين الألعاب، والسوشيال ميديا، وأشياء أخرى لا تمتّ للعلم بصلة.

فهل هناك فئة أعلى من سواها؟ فئة تتوجه للعلم بفطرتها وفئة لا؟

تجيب الفلسفة بأن هذا خرق لعدالة الطبيعة، فيرد الآخرون ومن أقر فلسفياً بعدالة الطبيعة؟

ويجيب علم النفس بأن المسألة تتعلق بالإدراك والربط، فالأطفال في الحالة الأولى أرادوا تعريفاً لهذا الشيء، فاستكشفوه ووجدوا علماً فصار إدراكهم لهذا الجهاز مُتعلقاً بالعلم، بينما هذه الهدية الممنوحة كانت مُجرَد شيء كمالي.

لنجعل الأمور أكثر مباشرة، لا جهاز تشتريه دون دليل استعمال، المسألة ماذا يُكتب في هذا الدليل؟ وعلى أي شيء يتم الاستخدام العام لهذا الشيء؟

كذلك فإن عقولنا تفعل الشيء نفسه، وبالتالي فإن ما ينقصنا ليس منتجاً من منتجات الطليعة، وإنما كيف تستفيد من مثل هذا الشيء، ما ينقص العازف الأفضل والعازف الأسوأ هو إدراك ماهية ما نملكه، وهذه هي المرحلة الأولى.

إن سألت مجموعة أشخاص تباينت ردود فعلهم حول مسألة الثأر ستجد أن واحداً على الأقل يقول: إن السلطة هي التي يجب أن تتولى المسألة، بينما يقول آخر: إن الثأر صورة من صور القصاص وعدالة الدولة وهم، وشرف العائلة أبقى، وآخر لن نعالج خطأ بخطأ آخر.

كل من الإجابات الثلاث تتمركز حول نقطة ما، حماية سيادة الدولة، حماية شرف العائلة، جدوى رد الخطأ بخطأ، تلك النقطة هي ما يتمركز فكر الشخص حوله، هو الشيء الذي يتوجب حمايته، هو الشيء الذي يعتبره الشخص اهتمامه ومركزه.

فمثلاً نقدية الدول والشركات وضعت الأفضلية للإنتاجية قبل الإنسانية، في حين أن العامل يرى إنسانيته فوق هذا إنتاجية هذا العالم الملعون، ولأن الكلمة العُليا لمن يملك التأثير المباشر رضخت الإنسانية للإنتاجية، فكان لزاماً عليك أن تعمل حتى وإن لم تملك حقوقك الأساسية.

الذي تستغرقه السوشيال ميديا يرى أنها لغة العصر أو مواكبة للمحيطين، والذي استغرقه العلم يرى أنه سبيل الخلاص؛ لذا إذا أردت الانتقال لمرحلة أكثر فاعلية، عليك أن تدرك ما الذي يراه ذلك الشخص مركزه؟ وتلك المرحلة الثانية.

إن أقمت استطلاعاً للرأي حول أهمية العلم، من المؤكد أن الأغلبية الساحقة ستؤكد أنه مفتاح التقدم، لكن إن تغيّر الاستطلاع لتقرر إقامة معسكر مغلق بقية حياتك، مَن تختار من المشاهير ليبقى معك؟

ستجد أن النسبة الساحقة قطعاً ليست من العلماء، وإن أردت تهوين المعضلة، وجعل استطلاعك واقعياً، لنجعل السؤال: «في حال سفرك لمدة طويلة، ما الكتاب الذي ستتخذه رفيقاً؟»، من المؤكد أن الكتاب لن يكون علمياً بحتاً بالنسبة للقطاع الأكبر.

وهنا تتمحور الفوارق بين الإيمان بعظمة الشيء، ورغبتك في القيام به، فالكثيرون يرون العلم أسمى ما يمكن العمل في رحابه، لكن رحابه ثقيلٌ بعض الشيء على كواهلهم، وتلك هي المرحلة الثالثة، بإمكانية الربط بين ما يستحق حمايته وجعله جزءاً محبباً من حياتك.

يُحكَى أن رحالاً أهدى ماسةً لطفلٍ ضال فظل متشبثاً بها حتى غلبه الجوع فقايضها برغيفين، أكل أحدهما واحتفظ بالآخر، وفي طريقه طلب عجوزٌ طعاماً ووعده بثمنٍ، فمنحه الرغيف الذي يملكه وقايضه العجوز بالماسة التي كان قد قايض بها الرغيفين، فنظر لها الطفل ملياً ثُم ذهب لأبيه يسأله فأخبره أنها لعنة إله النور، مهما لفظتها تعود إليك، فرماها من فوق جبلٍ على سبيل التجربة، وجلس ينتظرها لتعود.

نحن لا نحتاج أشياء عظيمة تمكننا من صنع الحضارة، نحن نحتاج أن ندرك عظمة ما نملكه بين أيدينا، وعظمة ما هو ساكنٌ فينا، وأهمية ما هو محيطٌ بنا قبل أن نسعى لشيء جديد، هذا الواقع المجتمعي لن تُغيّره كنوز الدُنيا ما لم يتغيّر أهله؛ ليدرك أن المورد الأبقى عبر كل هذه السنوات هو الإنسان، فقط علينا أن ندرك مراحله الثلاث كي يُطوّع للعلم، ويُطوِّع العلم.