نحنُ مدينون للكتابة بالكثير، نَدعّيها وتدعونا، نَسُبَها وتَنسِبنا، نحط من قدرها بقاذورات أقلامنا فترفع من قدرنا بمظهرنا كصفوة، نشوه معالمها فتُجملنا، نغصب أحرفها فتُرضينا، نُتاجر بها فتُربِحنا، كثيراً ما تجد أن اعتزالك إياها اعتذار عملي بأنك لن تساهم في اغتيالها بالسوء، وتعتقد هي أنك نذلٌ ترك حبيبته ليلاً في قارعة الطريق لأبناء الليل سفحاً، فتدُبِرُ عنك فتشتاقها، تهرُب منك فتطاردها، فتعود إليها فلا ترتضيك، فتعتذر لكما معاً «بأنك حقاً لا تُجيد الكتابة لكنك لا تعرف سواها».
جيلنا الكاتب مرضاه ما بين أزمة المراهقة المُتأخرة والشيخوخة المبكرة، كتاباتنا لا تعبر تعبيراً صادقاً عن أعمارنا؛ لأن أعمار الفئة الأولى ضاعت هباءً فلم تؤسس على أرضٍ صلبة من الخبرة والثقافة لتفرز لنا حُلماً يستحق البقاء، والفئة الثانية ما بين نوادر كتابٍ طحنتهم الحياة فمنحونا أشياء أندر علها تبقى ولا تدري هل هم قليل؟ أم كثرة حجبتها أحجية النور والظلام؟
وكُتاب طحنتهم الحياة فعزلوا ما يرونه واستسلموا لتجربة السقوط الحُر في أحضان السوق والجمهور.
جيلنا القارئ الأصلي مرّ بمرحلة البسترة، إن جاز التعبير، ما بين العُزلة والاحتماء بقوة الحُجَة ضد سخرية اللاجدوى.. وانفجارات الثورة والسوشيال ميديا التي طرحت القارئ من النقيض إلى النقيض، فصار فنجان القهوة وصوت فيروز وكتاب موضة هذا العصر.
لا أستطيع الجزم بمدى نفع أو سوء المرحلة الثانية، فأياً كان لربما موضة القراءة الخطوة الأولى نحو القراءة، وإن كانت تنقصها الرؤية والغاية.
جيلنا القارئ الجديد، الذي دخل المرحلة مواكبة لتجديدات هذا العصر، يعاني التخبط، ماذا أقرأ وكيف أتجه؟
ولأن القارئ الأصلي -كما ذكرنا والذي سمّيناه بذلك لأنه يتصرف على هذا النحو- يجد في نفسه ترفعاً عن اللاحق، ويرى في نفسه خبيراً ويرى في المُحدث -عذراً- ممحوناً، فلا يجد القارئ الجديد بُداً من أن يسأل قارئاً جديداً آخر، والذي يسير مدفوعاً بعاطفته -الوعي الخادع لوعيٍ خادعٍ آخر- فيمنحه ما يعرفه؛ لأن ليس بإمكانه أن يمنح ما لا يعرفه، فتجد الطبقية تتجلى واضحةً ليس فقط في الاقتصاد، بل صارت في الثقافة أيضاً.
في درس اللغة العربية بالثانوية العامة كنّا نتناول قصيدة إيليا أبو ماضي التي يقول في أحد أبياتها: «لي نفس غير أني لست أدري ما هيّ»، فانبرى زميل يسأل «فرقت إيه عن أنا مش عارفني بتاعة عبد الباسط حمودة!»، فكان رد أستاذ اللغة العربية قاطعاً «الأسلوب والمعالجة والرؤية».
مآسي البشر الأساسية تتشابه، والجميع يبحثون عمن يتحدث بلسانهم شعورياً؛ لأنك شئت أم أبيت فالبشر متمركزون حول أنفسهم، ولديهم ما يكفي من الأنانية والكبرياء -أيضاً- ليدعوها تمركزاً حين لا تكون كذلك، فهم يمشون خلف أنفسهم بحثاً عن نفس أسلوبها وشعورها وفكرتها.
القارئ المسالم يتمنى أن يقرأ مرآته وأغلب القراء الجدد كذلك.
حدث ذات مرة، أن مدرساً كان يُجبر طلاب فصله على الدروس الخصوصية عن طريق تحكمه بدرجاتهم وعقابهم وما شابه -قصة قصيرة شائعة- فرفض بعضهم الفكرة، وحين علموا بخضوع آخرين واستسلامهم للدَرس، تشاجروا معهم وأبرحت كل فئة الأخرى ضرباً «قصة قصيرة شائعة أخرى».
ما فعلته الفئة الأولى أنها نصّبت نفسها إلهاً ويداً تحمل على عاتقها تصويب مسار الآخرين بالقوة والتي ستدفع الآخرين للتمسك بما هم عليه أكثر ثأراً، كذلك هذا حدث والقراء الأصليون فقد انطلقوا يدافعون عن كرامتهم ومكانتهم ولقب «قارئ» فجرى ما جرى.
دعنا من المثال، ولننتقل لخلاصته «بألا تحاول لي عنق ذوق البشر أو اختياراتهم بالنقض والسَب وادعاء الترفع حتى وإن كنت حقاً على صواب، فلا تستبدل ديكتاتورية الإسفاف بديكتاتورية الرُقي».
لا تستطيع تحليل ظواهر مجتمعٍ ما ولا قطاعٍ ما عن طريق مقال، لكنه قطاع عرضي لأحداث تستكشف منها شيئاً يسيراً بأن عليك أن تخلع رداء الصفوة وتتقبَل مساحة الجُدد، أن تكف عن فعل ما يفعله آباؤنا يومياً تحت مُسمى الخبرة، تحيل الصراع الخفي تعايشاً فإما أن ترتفع بهم لما تعتقده، أو تهبط -لما تراه- هوتهم السحيقة، فالأولى أفيد من السب والنقض، والثانية تعني أنك كُنت مدعياً، أو فاشلاً وعليك أن تبدأ الرحلة من جديد.. إن كنت ما زلت متمسكاً بها، لتنخرط بين قراء العصر الجديد لتخبرهم بما تقرأ بصفاتٍ ثلاث؛ مُيسراً، مُتخيراً، مُتعايشاً.. ولهن تفصيلٌ آخر.