قصدتُ المسجد لأشهد العِشاء مع الجماعة وليس في بالي أني سأرى ضيوفًا هناك؛ فالقرية صغيرةٌ وبعيدةٌ عن الازدحام ومواطئ الأقدام.

وقفتُ على عتبة المسجد، فأخذتني التفاتةٌ، فإذا أنا بشابَّةٍ توحي هيئتُها أنها في منتصف العشرينيات، بين يديها قطعةٌ من القمر تلهو وتمرح وتُرسل ضحكاتها غير مباليةٍ بالمكان ولا الزمان.

جال بي الفِكرُ وأبعدتُ وأغربتُ، من هذه؟ ومن أين جاءت؟ وما نزولها علينا؟

انتهت الصَّلاة والْتَفَت الإمام ليَفُضَّ الغموض ويخبرنا الخبر: "هذه أختنا من سوريا". فعرفتُ الحكاية، وأدركتُ القصة، وغشيتني سحابةٌ من الهمِّ والحزن، وشعرتُ بالخجل والانكسار.

كانت الشابَّة ملتحفةً بالسَّواد، ولا أدري أكانت تُخفي نفسها عن الطَّامعين أم تُداري دمعتها على وطنها السَّليب، والطفلة الصغيرة تتقافز أمام عينيها سعيدةً فَرِحةً لا تعرف من الدنيا بعدُ إلا اللهو والمرح.

أدركتُ أن القَدَر ساقها إلينا ليذكِّرنا بقضيَّتنا التي نسيناها وهويَّتنا التي أضعناها، ويُحيي ضمائرنا من رُقادها الطويل، ويستنهض هِممَنا في نصرة إخواننا في الدين والعِرق واللسان.

أحسستُ بثقلٍ في رأسي وكأنَّ الفَلَك أمسك عن الدوران، فعالجتُ الأمر بخطواتٍ متسارعةٍ إلى بيتي أجلب ما قدَّرت أنه ينفعها من المال، ثم عدتُ إليها لأقضي شيئًا من تكاليف الدين والمروءة، ورغبتي أن أسألها: أين تسكنين؟ وهل لكِ عائلة؟ هل تقبلين مساعدتي؟ ولكن ما حيلتي وأنا فتىً في الحادية والعشرين لا يزال يعيش عالةً على أبيه!

كنتُ أعرف أن اللئيم لا يكترث بالمصيبة إلا إذا وقعت له، والكريم يتألَّم لغيره كما يتألَّم لنفسه، فوالله لَوددتُ حينها لو أنَّ عندي مالاً كثيرًا وبيتًا فسيحًا فأحميها من غوائل الدهر وتصاريف الأيام.

ذهبت المسكينة وطفلتُها على كتفها، تستعين بضحكتها على شظف العيش وتتسلَّى بها عن مرارة الأيام. ذهبتا والحسرة تقرض قلبي عليهما، ولا أدري ما يصنع الزمان بهما!

أيها الناس: لا تعاملوهم معاملة الغرباء الطَّارئين، إنهم إخواننا قد نزلوا علينا أضيافًا كِرامًا، لا لاجئين ولا طالبي صدقة! لقد دمَّر الظالم بيوتهم ونهش لحومهم وانتهك أعراضهم، أفنُعينه نحن ونبخل عليهم بكِسرة خبز أو شَربة ماء أو بعض المال؟

اتقوا الله في إخوانكم وأحسنوا إليهم، افتحوا لهم بيوتكم، وزوّجوهم عيالكم. أعينوهم على الشِّدَّة وضيق العيش، وأمدّوهم بالمال، واخفضوا لهم جناح الكرم والإحسان، وإياكم أن تظنّوا أنكم تمنُّون عليهم. إنما هي أوامر الإسلام وحقوق الأخوَّة ودواعي المروءة ومكارم الأخلاق.