استثمار جرئ بخمسمائة دولار من البروفسور فريد تيرمان في جامعة ستانفورد عام ١٩٣٢ دفع بطالبيه ويليام هيوليت و ديڤيد باركارد إلى تسيد عرش وادي السيليكون. بدأ الشابان العمل في مرآب أحدهما دون أن يكون لديهما منتج محدد بل كانوا يسعون لابتكار أي جهاز إليكتروني لتحقيق أي عائد مادي، فبنوا أجهزة صعق كهربائية لتخفبف الوزن و أجهزة لمعايرة الأصوات وغيرها حتى توصلوا لبناء جهاز مذبذب للأصوات audio oscillator الذي دفع بهم للانطلاق عندما اشترى والت ديزني منهم ٨ أجهزة لضبط أصوات فيلمه الشهير فانتازيا عند عرضه في صالات السينما وهكذا ولدت شركتهم التي تحمل اسميهما هيوليت باكارد والتي تعرف ب "إتش بي" hp .. توالت ابتكارات الشركة بعد ذلك فشملت أجهزة معملية إلكترونية لكمبيوترات حتى ولدت الآلة الحاسبة اليدوية hp35 عام ١٩٧٢ التي طورها مهندسو اتش بي لاستخداماتهم الخاصة ولم يتوقعوا تحقيقها لمبيعات عالية بسبب سعرها المرتفع آنذاك ( ٤٠٠ دولار بما يعادل ٢٠٠٠ دولار حاليًا) فكان أن بلغت مبيعاتها ثلاثمائة ألف آلة حاسبة مدشنة بذلك نهاية عصر المسطرة الحسابية المنزلقة التي اعتمد عليها المهندسون لسنوات طويلة والتي لاتتجاوز قيمتها العشرة دولارات.
لم يقتصر دور إتش بي على الإلهام المؤسسي فقط بل تجاوزه ليلهب خيال أطفال وفتية وادي السيليكون فهاهو الفتى اليافع ستيڤ جوبز ، مؤسس شركة آبل، يحلم بتأسيس شركة عظيمة مثل إتش بي والتي كان عضوًا في ناديها للمستكشفين الصغار. تعلق ستيڤ بالكمبيوتر بعد أن شاهده في معاملها وبين أيدي مهندسيها وقرر أن يكون ذلك شغفه المستقبلي وانطلق يعمل في مرآب جاره الذي يحضر له القطع الإليكترونية من شركة اتش بي التي كان يعمل بها. أما شريكه ستيڤ وزنياك فقد عمل في ضمن فريق تطوير الآلة الحاسبة في إتش بي قبل أن ينضم مع ستيڤ لتأسيس آبل .. الطريف في الأمر أن ستيڤ وزنياك كان يحصل على احتياجاته من مصدر مختلف عن طريق والده المهندس الكهربائي الذي كان يحضر له من مقر عمله الترانزيستورات المرفوضة لخلل في شكلها والتي كان من المفترض استخدامها في تجميع الأنظمة الإليكترونية لصاروخ بولاريس .
يتجاوز أثر اتش بي على شركات وادي السيليكون ريادتها التقنية بمراحل .. فقد كان لها ابتكارات في مجال شؤون الموظفين تعدل ابتكاراتها التقنية. فمعظم الأساليب الإدارية الرائجة في شركات وادي السيليكون حاليًا تعود إلى أسلوب إدارة فقد نشأت فيها ساعات العمل المرنة ومشاركة الأرباح وحصص الأسهم وحفلات الشواء في نهاية الأسبوع وملاعب كرة الطائرة في مقر الشركة وغيرها. كانت إدارة إتش بي تدرك أن سر نجاحها يكمن في موظفيها فكان احترامها وتقديرها لهم مثالاً يحتذى. بل أن حتى حرية ترك الشركة والانتقال لغيرها كان متاحًا لهم بأريحية وذلك إدراكًا من مؤسسيها أن ذلك ينشر المعرفة وينمي بيئة الابتكار في أرجاء وادي السيليكون.
تمثل اتش بي النموذج التقليدي لشركات وادي السيليكون فقد بدأت في مرآب وابتكرت أجهزة الكترونية وأصبحت من أكثر المنظمات المبتكرة وغدت شركة عالمية عملاقة ثم تباطأت وخفتت نجوميتها لكنها لا تزال قوية شامخة تنبض بالحياة .. قد تهرم المنظمة وقد تموت لكن أثرها يبقى لأجيال عديدة بعدها.. لذلك تستحق اتش بي أن تكنى ب "أم" وادي السليكون. أليس كذلك؟