١-"اللاأدري" يقع في التناقض، حيث إنه، في ذات الوقت، يشك ولا يشك، ويدري ولا يدري؛ فإن تعليقه للحكم على الوجود الإلهي إيجابا وسلبا، ينبني على تقرير الحكم بأن وجود الإله أو عدمه لا يمكن تحديده عن طريق الدليل؛ وواضح أن تعليق الحكم علامة على الشك، في حين أن تقرير الحكم لا شك معه؛ ثم إن اللاأدري لا يشك في أنه يشك، أو أنه يدري أنه لا يدري، حيث إنه يُحصّل تمام اليقين بأنه قد علّق حكمه على الوجود الإلهي، أي أنه يقطع بشكه فيه؛ والأجدر به أن يشك ولا يقطع.
٢-أن "اللاأدري" يحصر الدليل في نوعين اثنين هما: "حجة العقل" أو "شاهد الحس"؛ وهذا الحصر يبقى مجرّد دعوى لا دليل عليها، فيتعيّن أن نشك في صحتها؛ وحتى ولو تعاطى "اللاأدري" الاستدلال عليها، فلا نسلّم له ذلك للاعتبارين التاليين:
-أنه يجوز أن يكون للدليل الواحد وجهان استنتاجيان؛ والمقصود بـ"وجه الدليل" طريقته في تقرير مدلوله؛ ولا يبعد أن يكون للدليل الواحد، بالإضافة إلى مدلوله الجلي الذي يقف عنده اللأدري، مدلولا خفيّا يتطلّع الموحد إلى معرفته، ناقلا الدليل من رتبة الحجة العقلية أو الشاهد الحسي إلى رتبة الآية العقلية أو الآية الحسية؛ فمثلا ظهور الشمس من المشرق حجة على دوران الأرض حول الشمس، وآية على وجود خالق الشمس والأرض؛ وإذا كان الشك هو طريق الوصول إلى وجه الحجة، فإن طريق الوصول وجه الآية هو -على العكس- اليقين؛ فبقدر ما يزيد يقين الإنسان بوجود مدلول خفي للدليل الذي ينظر فيه، يأخذ هذا المدلول في الانكشاف له، حتى يحصل اطمئنانه التام إليه.
-أنه لا يصح أن ننكر أن هناك أنواعا متعددة من الدليل؛ فإلى جانب "حجة العقل" و"شاهد الحس" اللذين تقررا في الممارسة العلمية كطريقين صحيحين لتحصيل المعرفة، نجد أدلة ثلاثة أخرى لا يقل الاعتماد عليها في اكتساب المعلومات عن اعتماد الدليلين السابقين، بل قد يزيد عليه ولو أن هذه الأدلة الأخيرة لم تحْظ بالبحث المنطقي والدرس المعرفي اللذين حظيا بهما الدليلان الآخران؛ أحدهما النقل، وهو الخبر الذي ينقله الفرد الواحد أو الجماعة الواحدة أو ينقله الأفراد، الواحد بعد الآخر، أو الجماعات، الواحدة بعد الأخرى، عن قائل أصلي معين، قد يكون إلها أو نبيا أو إنسانا عاديا؛ والثاني شهادة العدل، وهي الإخبار عن الشيء مع ادعاء العلم به والصدق في قوله؛ والثالث شعور القلب، وهو أحوال المعرفة التي يجدها الإنسان في باطنه؛ ولئن كان صاحب هذا الشعور لا يستطيع نقلها إلى غيره على الوجه الذي خبرها في نفسه، فلا يمكن أن ننفي بالقطع أن له إدراكا ما بمضامينها ومراتبها، وأن حديثه عنها حديثه عنها حديث صادق ولو أنكرناه، ولقد شرع فلاسفة المعرفة المحدثون في العناية بأدلة الشهادة، مبرزين دورها الأساسي في كل مجالات المعرفة الإنسانية، على اختلاف موضوعاتها ومجالاتها؛ انظر:
C.A.J. COADY : Testimony, A
Philosophical Study.
___________
من كتاب روح الدين ص ٥٩