ترجل من مركبتك و اخط خطوات بين الراحلين متمتعا بخضرة المشهد و ضلال الصفصاف و البلوط  ، تقدم إلى الأمام  ، هناك جدي و انظر يمينا عمتي و على الشمال جدتي و كل من أمامك إخواني و أحبابي من انطلقوا في رحلة الحياة قبل القرار النهائي  ، و بزوغ نور الخلود و ولوج آخر المثوى .

 لطالما اعتقدنا أنها النهاية  ، و السطر الأخير من الحكاية  ، ومع تجارب العمر تتأكد لك الحقيقة أن الأعمار ما هي إلا أرقام  ، و ما الأيام إلا حلقات مترابطة لشريط يمر أمام عينيك لحظة الوداع  ، فتدرك وقتها أن الباب كان مفتوحا دخلت من الأول و خرجت من المقابل.

تتقدم قليلا ربما تسرع الهوينة  ، ثم تعود لتغوص من جديد في بحر تتلاطم فيه أمواج أسئلة و أحيانا إشكاليات  ، هي أسماء فقط لأن المسيرة في الواقع شاطئ هادئ عذب المياه  ، بأشجاره الفواحة لمن تمكن من كشف الحقيقة و تقبلها على الحلو أو المرارة.

كنت طبيبا  ، كنت مهندسا  ، كنت حاكما ...بل كنت عاملا بسيطا....مهن و مناصب و مصادر أرزاق متعددة  ، فهنا المعطيات تختلف و الأجدر رفع الشعار كنت صالحا و مصلحا و من آهل الصلاح  ، كان قلبي يعتصر ألما و أنا يدعه يمر و يفسد على هواه ،  و مع هذا حاولت أن أكون من آهل اضعف الإيمان  ، أم انك ستفتخر أنك كنت طاغيا مفسدا على شاكلة  النمرود . هنا تسقط كل الألقاب  و الأسماء و تتساوى الطبقات ، فلا فضل للحاكم على البائس الفقير ، و لا مقارنة بين صاحب المباني و من يبيت في زاوية الشارع في يوم الصقيع ، لا مكان للفراش الوثير و لا مقاعد للحرس الخاص بنظاراتهم السوداء ، بل كل ما ينفع اليوم سرور أدخلته على قلب اليتيم ، و أخلاق أثرت في الفاسق البليد فاستقام ، و أمانة حافظت عليها لحين موعد التسليم ، و أمور صالحة كثيرة ترسم البسمة في عقول الأطفال قبل الآباء.

و أنت بين الأضرحة و القبور استجمع ذكريات الراحلين ، و البوم صور أفراد العائلة و كل ما قيل عن النهايات المحتمة ، أطلق العنان لبصرك و ركز تفكيرك أمامك ، و ستلمح لا محالة العجوز الشمطاء المنبوذة البشعة صاحبة العينان اللتان تفيضان شرا ، كل نظرة منها تغرز سيفا في القلوب و تقذف حزنا في البيوت و تهدم الأسر و العائلات ، و طوفانا يقضي على الملكوت ، أوقف حاسة السمع عن استقبال صوت الغدير ، و زقزقة العصافير ، و عزف النسيم العليل ، و ستسمع صوت كلماتها و هي تتبجح بين القبور و القصور و العصور بقافيتها الحرة ، أو المراعية للبحر الطويل أو العميق.

أنا التي تهابني الجيوش ، و يفر مني الملوك و أصحاب اليخوت ، أنا من يكسر القلوب و يفرق الجماعات ، أنا القاضية على الحضارات و الأبنية و العمارات ، أنا صاحبة العمر الطويل من البداية إلى لحظة صدور أمر حاكم الملكوت بالذبح بين باب النعيم و عتبة اللهيب ، أنا المتواجدة في كل فج عميق و ارتحل مع المسافرين و الراحلين و المرضى في البيوت ، يهابني الجميع مع أني أرافقهم في كل لحظة و حين حتى في النوم على الوثير أو الحصير.

اسألوا تاريخكم عن ملوككم و جبابرتكم و أبنائهم ، اسألوا تاريخكم عن المفسدين و الظلمة في الشرق و الغرب ، اسألوا عنهم إن شربوا من كأس أسقيها لكل ذي روح و نور ، فمنهم من تجرع السم الزعاف و منهم من استبشر بالحور العين.

فلم تهدموا سلم الجنان ببغيكم ، و تتفرعنوا على ضعفاء أهاليكم و تختلسوا أحلام صبيانكم ارضاءا لشيطان أهوائكم ، و عند الغرق تؤمنون بما آمنت به بنوا إسرائيل .

استخلصوا الدروس و العبر من طغاتكم ، و عبدة الدمار في أرضكم ، و شقوا لأنفسكم مسلك النجاة لكم و لأهاليكم ، و أقيموا السلالم لبلوغ ما لا رأته أعينكم و لا خطر على قلوبكم.

وقتها سترى العجوز الشمطاء قد غطى الجمال هول قبحها بفعل آثار الحكمة في أقوالها ، و بلسما يشفي أسقام العليل و الباحث عن السبيل .....ستلتفت و ترحل و هي التي تسكن كل الوجود .....و إن ملكت الشجاعة اسألها عن اسمها ، و ستجيبك بكل رقة و حنان.....أنا....نهاية الحياة.

محمد بن سنوسي