لا يزال يذكر قميصه الأخضر الذي اشتراه من سوق الملابس المستعملة بالمدينة القديمة، و كيف ظهر به و هو يرتديه في صورة جمعته برئيس البلاد يوم تدشين الإذاعة.
لا يزال يذكر جيدا يوم المسابقة، و كيف قال لأصدقائه أن الواجب اليوم الدخول في ثوب الضحية فان كان التتويج فذاك المراد، و إن كان العكس فسنكون وقتها قد خضعنا لمنطق أصحاب النفوذ بإعداد قائمة الناجحين مسبقا، كوقاية من صدمة الهزيمة.
لم يكن على علم بمسابقة الدخول للإذاعة إلا من خلال احد أبناء العمة رحمها الله يوم الوليمة العائلية، فحاول خوض المغامرة باحثا عن منصب عمل و فقط، و بعد أيام كان اسمه على قائمة الناجحين على باب المدخل.
لا يزال يذكر الثقة العالية التي خرج حاملا لها بعد المسابقة، و كيف قال في داخله مستحيل ألا انجح بعد الإجابات المدونة على ورقة الامتحان الكتابي.
لا يزال يذكر انه لم يتأقلم في اليوم الأول ، و لا الثاني ، و لا الشهر الأول ، و لا الثاني و استمر الأمر لسنوات ، فكان أمام آمران إما التأقلم لكسب القوت و إما كظم الغيظ و انتظار غد أفضل ، كان يؤمن دائما بإمكانية تقديم الإضافة في مجالات متنوعة في العمل الإذاعي ، و لكن العراقيل المنصوبة و الأبواب الموصدة في وجه كل طموح أو مشروع هادف بفعل مزيج من الغيرة و الحسد و التنافس لأجل مكان في مقدمة المشهد ، ارضاءا للأنا المريض أو النرجسية الخداعة أو الاثنين في آن معا ، فينتج عنه اختلاط الوضيع بصاحب الهمم و النمام بصاحب القيم.
سعى في بداياته لخدمة إعلامية إصلاحية ترفع ذوق المستمع و تسمي الأمور بمسمياتها ، فترسم الخطوات الأولى لمن قال آن الأرض تدور حول الشمس و تبوء مكانة في مرمى سهام و رماح المثبطين و أصحاب الفكر المتحجر من الزملاء ، ما جعله يكتفي بما تمليه الوظيفة درءا للعقوبة و الكلام الجارح ، كان دائما يقول في قرارة نفسه كيف اختارت اللجنة بعض الموظفين للعمل بمؤسسة إعلامية اكبر منهم ، كيف سيقدم بعض هؤلاء الخدمة الإصلاحية للمجتمع وعيون بعضهم تمتهن الحسد و الغيرة والحقد و حب الظهور و احتكار الريادة ، كما لا يزال يتذكر يوم رحيل الحاكم الأول و كيف آن طموحاته لم تجد معه سبيلا للنور ، و مع ذلك فهو يذكره دائما بخير ، و مع تنصيب الحاكم الجديد تسلل الاستفهام لكيانه هل الحكام من طينة واحدة ؟ و هل ستفتح الأبواب و يتم تفعيل المشاريع ؟ أم أنها ستبقى مجمدة إلى حين . في الواقع تأكد مع مرور الأيام آن الحاكم الجديد أدرك قواعد اللعبة و الإصلاح الواجب إرسائه ، فبدأت أنوار التشجيع تشع بقبول أول برنامج مباشر ، كان ذلك في رمضان فضاء يهتم بالعادات السلبية في الشهر المقدس ، و يقدم البدائل للتغلب على كل ما يعكر الأجواء الشعائرية الإيمانية.
لقي البرنامج أصداءا طيبة ، خصوصا أنه اتخذ من اللغة البسيطة سبيلا للوصول لعامة المستمعين ، فامتزجت الطرفة بالنصيحة ما مهد له للحصول على حيز قار في الشبكة العادية طول السنة تحت عنوان المجتمع و الناس.
كانت هذه البداية ، لتليها برامج خاصة ، و تغطيات لأحداث عديدة ، و مشاركات في الأيام المفتوحة لدرجة أنه أصبح طرفا في المعادلة و عضوا فعالا مشاركا في صناعة الوجه الإعلامي الإصلاحي للمؤسسة ...حدث كل هذا بكلمة واحدة من الحاكم الجديد أعربت عن الثقة و الدعم و التشجيع ، إطار سمح له بالنشاط الساعي لبناء و تأسيس إعلام جواري يثمن الايجابيات و يقوم السلبيات و يرشد الناس للخير.
لا يزال يذكر يوم كلفه الحاكم بتغطية زيارة وزير التربية الوطنية و التدخل على المباشر قبل نشرة منتصف النهار، فأتم المهمة بنجاح و بكل مهنية.
لا يزال يذكر كلمات الحاكم الجديد و هو يعرب له عن الثقة الموضوعة في شخصه في كل ما يقدمه من إنتاج ، و سعادته بتقني ينشط في مجالات متعددة دون انتظار الجزاء ، لا يزال يذكر وقع الكلمات على قلبه و كيف كانت بلسما يشفي العليل و يعيد الاعتبار لمن اجتمع في أمره بعض الملأ سرا لكسر إرادته ، فأصبح رائدا في إنتاج الشارات المحاربة للتدخين و المخدرات ، و الأخرى الحاثة على التبرع بالدم ، إلى جانب التحذير من مخاطر السرعة و حوادث المرور و أمور خير كثيرة .
لا يزال يذكر يوم كلفه الحاكم ببيان رئاسة الجمهورية قبل موقعة أم درمان و بالإلحاح أن يتم التسجيل بصوته أيضا ، و ذلك أيام التصفيات المؤهلة لمونديال جنوب إفريقيا لتكون الالتفاتة بذلك نقطة فارقة في مسيرته صانعة أجمل ذكرى في مشواره ، و التي سبقها بيوم واحد بث البرنامج الخاص أفلوا نزا المونديال الذي ذكر الجميع بالعلاقات الأخوية بين الشعبين الجزائري و المصري مرتين في يوم واحد ، في سابقة أولى و عربون ثقة و اعتراف بالصدق و المسؤولية في المادة القابلة للبث .
لا يزال يذكر يوم التوديع ، و كيف قال له الحاكم المغادر أنك بين أيادي أمينة ، و أن أبواب التشجيع و التحفيز ستبقى مفتوحة ، في الواقع أدرك يومها أن إطلالة النهاية المحتمة قد أشرفت ، حتى و إن وجد من الشبه أربعين ، وان الحكام رغم تعدد ألوان بدلاتهم الأنيقة ، إلا أن منهم من يحفر اسمه في الوجدان و منهم من تحال معه على التقاعد المسبق في عز مرحلة البذل و العطاء .
مرت أيام الفراق عصيبة جدا ، ظل فيها يستقرأ فكرة وجوب استمداد الحاكم لشرعيته من حب غالبية الموظفين له ، و كيف يتحول لأخ اكبر ،كيف تكون قراراته الوسيلة التي تصنع منه قدوة و مثالا حيا يقتدى به في المهنية و المسؤولية و الصدق في إرشاد الناس ، بعدها استيقظ صاحبنا وهو في مرمى السهام و الرماح و المؤامرات معلنة انتقام الأذرع المكسرة في منطق القوم ، من الذي كرمه الحاكم الثاني بإطلالة أسبوعية يوم الأحد ، فسقطت الأقنعة و ظهر الحقدة و الناقمون من سياسة التشجيع ، فانسحب في هدوء أو بالأحرى تم تقديم وثيقة الانسحاب نيابة عنه ، لأنه لم يتربى على مجاراة حياة العفن و لا الصيد في الماء العكر ،محتفظا بذكريات لا تنسى و لا تمل أيام كان يستعجل الولوج لموقع العمل و التفكير في موضوع الأسبوع القادم ، و هو يستجمع كل يوم الكلمات المناسبة لعله يوفي حق من فتح له باب التواصل المباشر مع الإخوة و إيضاح الطريق لهم لتجاوز أمواج الفشل و التقصير ، فبعض النجوم لا يخفت البريق الصادر منها أبدا و بعضها الأخر نترك لكل حكمه الخاص عليها ، و أطلق بعدها العنان لقلمه لاستنطاق جراحات الفؤاد و الحزن على فرص لم تستغل لتقويم الشباب و تصحيح المسار، متأكدا أن التاريخ سجال، يوم يجلب السرور فننتج الشارات و البرامج ، و يوم تتمتع فيه باستراحة المحارب ، فإما السبات و انتظار صب الأجور دون أن تكون لنسبة المرد ودية أدنى اهتمام ، و إما الانتظار أن يستقيم الأفق و يعود الأثير خادما فيصلح..... المجتمع..... و..... الناس .
محمد بن سنوسي