أطلت علينا الكوليرا من جديد و بوجهها القبيح ، لا لكي تروج لرواية غارسيا ماركيز و القصة أيام الوباء ، و لكن لتشكر الجميع على درجة التحضر و التمدن و الرقي و ما وفرناه لسيادتها لتعود للحياة من جديد ، في صورة معاصرة للأسطورة القديمة ، ضاربة عرض الحائط الشعارات الرنانة الراسمة للمكانة الراقية لما وصلت إليه أحوال الطب و التداوي ، وواقع الصحة و المواطنة ، و الاهتمام بالمحيط و المجتمع ، و مشاهد الحياة الكريمة .
عادت الكوليرا لتطرق الأبواب ملامسة الكبرياء الكاذب بتوا الصدارة ، و مشيرة بالبنان لشوارع مدن بأكملها و هي تغرق في القمامة تحت جنح الظلام و تحت الحراسة المشددة لكوادر الكلاب الضالة المشردة الخطيرة و هي تفرض منطقها و أنيابها ، بحضر التجول على المواطنين الآمنين بمنطق حراس الحظائر و واجب دفع الضريبة .
عادت الكوليرا لتضبط لنا التوقيت الصحيح بأننا لم نغادر بعد القرون الوسطى ، و لا قدر الله قد يطل علينا طاعون الفراعنة ووباء جرذان أوربا القديمة و اناكوندا البرازيل.
عادت الكوليرا لأننا لم نعد نسمي الأمور بمسمياتها ، فصارت الزنا علاقات حميمية و غرامية و أيام شبابية ، حملت معها الفيروس ، فسابق الجميع الزمن لأجل الوقاية فاضحي الواقي الطبي ذريعة لممارسة المحظور ، المهم نكون في طوق الحماية ، في وقت كان يكفي إعادة التسمية لأصلها...الزنا من الكبائر و الموبقات فلا تقربوها لا هي و لا خطوات الشيطان.
عادت الكوليرا لأننا اتبعنا الغرب في تصرفات أراذلهم ، فخلعنا الحياء و تجردنا من الملابس و مزقناها و أعفينا اللحى بدعوى تعاليم الموضة ، فتخنث الرجال و ترجلت البنات و تحول الراقص و العارية و المغنون لرموز في المجتمع و أمثلة لقصص النجاح.
عادت الكوليرا لان الإسلام لم يعد يمشي في الشارع ، و النظافة لم تعد من الإيمان ، فضربنا هويتنا بأيدينا ، فاليوم نتكلم كالغرب و شوارعنا غارقة في القمامة ، و نلبس كمغني الراب و هوائنا يحرق رئاتنا ، و نمشي كالأمريكان و أخر كتاب قراناه يعود لأيام المدرسة ، فلا نافسنا الغرب في الحضارة ، و لا التزمنا بتعاليم الأصالة. ، فنحن اليوم بين الجمار لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء .
عادت الكوليرا لتوقظ الضمائر ، و تهز المروءة ، و لتبعثنا لبطون أمهات الكتب لتذكير الناشئة أن التتار اسلموا لنظافة المسلمين ، و أن الأندلس صنعت الصابون ، و أن أحب شيء للنبي صلى الله عليه و سلم كان العطور و الطيب و كيف أوصى بنظافة الهندام و المحيط.
الكوليرا عادت لتدعونا للعودة لأصلنا و تعاليم ديننا ، و تدفعنا لنشهد على أنفسنا أننا لم نكن مسلمين حقا ، و لا متحضرين على طريقة العلمانيين ، بل فقط دخلنا جحر الضب بملابسنا الممزقة و علاقاتنا المحرمة ، فلا استوردنا الحضارة كما استوردنا الصين ، و لا قرأنا و درسنا و بحثنا ، و لا أرسينا قواعد الجيل بل فقط تجاهلنا و حاربنا و انسلخنا لدرجة أننا احتقرنا مقوماتنا ، فجعلنا من الأضحية مشهدا للبداوة ، و من كلاب باريس البشعة ، و كانيش العجوز الهرمة منظرا للرقي و التمدن و الحضارة.
فالقصة كلها ستعيد لنا اليقين أن آخر الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها....فإما نكون أهل الرسالة فنلمع الشوارع و القلوب و نرقى بالأخلاق و نركب سفن الحضارة ، و إما نتمتع مع الكوليرا بقصة الغرام بين الحب و الوباء و القذارة .
محمد بن سنوسي
24/08/2018