بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
إذا أقبل العيد تحدث الناس عن أحكامه وفضائله وغاياته التربوية والاجتماعية وهذا أمر جميل . يتحدثون عما يجزئ في الأضاحي وما لايجزئ وعن وقت الصلاة ومكانها وعن التكبير والتبكير وعن مساعدة المحتاج وصلة الرحم . يتحدثون عن كل شيء يتعلق بالمسلم في خاصية نفسه أو في علاقته بأسرته وقرابته . لكنهم لا يتحدثون عن العيد ومقاصده السياسية وعلاقته بالمسلمين كونهم أمة واحدة . لا يتحدثون عن العيد وأبعاده العالمية والرسائل التي يقصد الشارع الحكيم تبليغها للعالمين . فَهْم جزئي للدين متأثر بواقع التشرذم الذي يعيشه المسلمون . وبتاريخ طويل من الظلم والاستبداد منذ أن استبد بنو أمية بالأمر .
في هذا المقال أحاول ان شاء الله بيان بعض مقاصد العيد السياسية وما أراده الشرع للناس جميعا . لا أقف عند المقاصد التربوية والاجتماعية فهي معلومة بالضرورة .
أولا : العيد وتحريف الغالين :
شُرع العيد لتحقيق غايات متنوعة .من أهم تلك المقاصد التي تشترك فرائض الدين وسننه في تحقيقها مقصد تحرير العباد . بَيد أن هذا المقصد الأسمى يتنافى وطموحات حكام الجور الذين يريدون الناس َ عبيدا لهم . ما جعلهم يمكرون ويَحُولون بين الناس ودينهم فإن لم يستطيعوا ذلك علانية لجؤوا إلى التحريف معتمدين على فقهاء مأجورين . بدأ هذا التحريف مع حكام بني أمية
أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حديثا طويلا جاء فيه : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ على ذلك ( يقصد الصلاة قبل الخطبة يوم العيد)َ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ - وَهُوَ أَمِيرُ المَدِينَةِ - فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَلَمَّا أَتَيْنَا المُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ، فَجَبَذَنِي، فَارْتَفَعَ، فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلاَةِ»، فَقُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ، فَقَالَ أَبَا سَعِيدٍ: «قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ»، فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لاَ أَعْلَمُ، فَقَالَ: «إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ » .
قلت : ماالذي صد الناس عن سماع الخطبة وهم حديثو عهد بالنبوة ؟
وأية جرأة كانت للحاكم حتى يغير ويبدل والصحب الكرام شهود ينهون ولا يسكتون بل« يجبذونه » ؟
وأية شجاعة كانت للصحابي حتى يجبذ الأمير من المنبر ؟
أليس السمع والطاعة لأولي الأمر دين من الدين ؟
أم أن السمع والطاعة للأمير في المنشط والمكره فقه طارئ أو تحريف متأخر للكلم عن مواضعه كان للصحابة فهم خاص مغيب الان ؟
أي تغيير وتحريف طرأ بعد غياب الصحب الكرام وصمت العلماء وجبنهم أمام الأمراء ؟
هذه القصة تنبئ أن ثمة تحريفا كبيرا فعله الاستبداد وثمة تجزيئا لكليات الدين وتغييرا لمقاصده وتحريفا لفهمه . لولا أن الله حفظ دينه برجال من أمثال سعد « يجبذون » المستبد من منبر طغيانه .
ثانيا : العيد سَمْتٌ حسن وزُيال عن الباطل وأهله :
السمت تميز في الظاهر والباطن وجمال في الشكل والمضمون .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يرى الناسُ جمالَ الإسلام وعظمته ويسره ووسطيته من خلال إظهار شعائر الله ومن خلال أعمال المسلمين وسمت المؤمنين .
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها ، قَالَتْ : " كَانَ الْحَبَشُ يَأْتُونَ ، فَيَلْعَبُونَ بِحِرَابٍ لَهُمْ ... فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِيَعْلَمَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنْ فِي دِينِنَا فُسْحَةً " . أَخَرَجَهُ مُسْلِمُ.
كما كان عليه السلام حريصا على أن يمتاز المسلمون بنظافة أبدانهم وحسن أخلاقهم وجمال هيآتهم فسن لهم الاغتسال قبل الذهاب للمصلى ولبس أفضل الثياب والتطيب بأفضل الطيب .رَوَى اِبْن أَبِي اَلدُّنْيَا إِلَى اِبْن عُمَر أَنَّهُ كَان عليه السلامَ يَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ فِي اَلْعِيدَيْنِ" .
يريد الإسلام أن يَظهر المسلمون على أحسن حال وأنظفه وأجمله يريد أن يتميزوا عن الباطل وأهله مظهرا ومخبرا . وذلك دعوة لغير المسلمين للاسلام وتحبيبا له لقلوبهم فان الفِطر تعشق الجمال وتمج الخبائث .
أخرج الحاكم عن أبي الدرداء رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إنكم قادمون على إخوانكم فأحسنوا لباسكم وأصلحوا رحالكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس " . سياق الحديث يدل على أن هذا التوجيه النبوي لم يكن في يوم عيد إنما كان في سفر جهادي دعوي تتوفر فيه كل دواعي الشعث وسوء الحال فلهم كامل العذر . لكن هذا لم يمنع المربي العظيم أن يوجههم لأن يمتازوا عن الناس ليكونوا كالشامة .
كان هذا الزيال في وقت كان من يرى المسلمين اليهودُ جيرانهم أو قوافل التجار أما اليوم حيث الكاميرات والفضائيات والعالم كله يرى مشهد اجتماع المسلمين في المصليات فإن سمت المسلمين يكون أبلغ دعوة وأصدقها إن سمعوا التوجيه النبوي .
ثالثا: العيد إظهار لقوة المسلمين وعزتهم :
في الصحيحين أنه عليه السلام « أمر النساء أن يخرجن إلى صلاة العيدين ، وأمر الحيض وربات الخدور بالخروج إليهما »
يأمر النساء بالخروج إلى المصلى ويأمر الحيض تكثيرا لسواد المسلمين . أقول هذا كان يوم كان للمرأة دور في بناء الأمة وتحقيق عزتها قبل أن يعزلها الفقه التابع لهوى الحاكم ويجعلها عورة وعالة .
إنه لمشهد عظيم أن يجتمع المسلمون في صعيد واحد رافعين أصواتهم بالتكبير صفوفا كأنهم بنيان مرصوص . مشهد يسر الناظرين ويغيظ الماكرين . يبعث على المحبة والتقدير للمسلمين في نفوس الناظرين من خارج أسوار الأمة ويقذف الرهبة في قلوب المتربصين . لعله يكون رادعا لكل من سولت له نفسه أن يمس الأمة بسوء .
أما اليوم ومع ما تعيشه الأمة من تمزق فإن العيد والحج شعيرتان توحدان المسلمين على الأقل عاطفيا في انتظار وحدة حقيقية مرجوة .
وإن في التكبير لعبرة . التكبير هو رمز للجهاد ولقوة المسلمين وإن زعم الزاعمون وان اختطفه من أساؤوا فهم الجهاد فجعلوه نقمة على المسلمين وغيرهم .
قال تعالى :" وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "
ذكر البخاري أن عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، « كان يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ المَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا» وَكُنَّ«النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ عمر بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي المَسْجِدِ.
« كن النساء يكبرن » قلت هذا يوم لم يكن صوتهن عورة !! يكبرن لكن خلف الإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أما الحاكم المستبد فقد أخرسهن بفتوى «صوت المرأة عورة » وأخرس أشقاءهن الرجال بالسيف .
رابعا : العيد سلام من غير ضعف :
عقد البخاري رحمه الله في صحيحه بابا ترجم له بقوله :
" بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلاَحِ فِي العِيدِ وَالحَرَمِ "
وأورد فيه حديثا : عن ابن عمر وكان قد أصيب في رجله برمح فجاء الحجاج الثقفي يزوره فَقَالَ: مَنْ أَصَابَكَ؟ قَالَ: « أَصَابَنِي مَنْ أَمَرَ بِحَمْلِ السِّلاَحِ فِي يَوْمٍ لاَ يَحِلُّ فِيهِ حَمْلُهُ» يَعْنِي الحَجَّاجَ.
الحجاج هو سفاح بني أمية . هذه ثلمة أخرى في الدين فعلها استبداد بني أمية إذ أدخلوا السلاح إلى الحرم في يوم عيد . لا يبالي حكام الجور بأحكام الشرع . ولا حرمة لهم لمكان ولا زمان . المكان : البلد الحرام والزمان : الشهر الحرام حيث القتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به .
يريد الإسلام أن يكون العيد والشهر الحرام باعثا على الأمن في نفوس الناس ويريد الطغاة أن يرهبوا الناس لتثبت عروشهم وأنى لهم . يحادون الله ورسوله فلا يهنؤون إلا بإراقة مزيد من دماء العباد في العيد فينفذون الإعدامات فيه كلهم مقتد بالحَجّاج .
مشهد اجتماع المسلمين في المصلى يرمز الى قوة المسلمين كما أن كراهة حمل السلاح في العيد تدل على أن الإسلام دين سلام للناس أجمعين ولخلق الله كلهم فإن الحرم لا ينفرصيده ولا يعضد شوكه .
إنه سلام الأقوياء لا استسلام الضعفاء .
ختاما نحتاج إلى تحرير أعمالنا من عقدة الفردانية التي غزتنا من الغرب فصيرت عباداتنا التي كان الأصل فيها الجماعة إلى أعمال انعزالية وإلى تحرير أفكارنا من آفة الغلو التي نخرتنا من الداخل بتسلط الوهابية المتشددة المتحالفة مع الاستبداد فصيرت الشعائر التي كان الأصل فيها الرحمة والتيسير إلى مشقة وحرج . نحتاج إلى نظرة واسعة للأمور متعالية عن موروثات فقه مُتحَكم فيه .
أعاد الله هذا العيد على الأمة جميعا وعلى الإنسانية بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام
والحمد لله رب العالمين