" خذي القلب إن كان كافياً أو إستقري في روحي فإنها منذ خلقت .. تبحث عنك "
هل سمعت يوماً عن رجلاً صادق نملة ؟!، كنت أمد أصابعي إلى الحصى وأرفعها برفق مبسطاً إياها للنملة حتى أغريها بالصعود، صغيرٌ أنا وكذلك النملة، وربما هذا ما جمع بيننا. أتركها تجري فوق كفي وأسرح قليلاً فأجدها قد غافلتتي وإندفعت فوق ذراعي، ثم فجأة تنزل سريعاً عن جسدي وتسير في طابور طويل مع رفقائها ناحيتها، كانت تسكب قليلا من العسل على الأرض أنان النمل، فيجتمع النمل حول البقعة التي صنعتها، فتراقبهم في فرح وتناديني أن أشاهد معها، واكني لم أكن أستطيع أن أرى شيئاً آخر سواها في حضورها.
لم تكن شادية مجرد إبنةُ خالي التي أكبرها بثلاثة أعوام، ولا تلك الطفلة التي كانت تصرخ وهي صغيرة ولا تهدأ إلا حين أحملها وألعب معها، بل كانت وفيقتي وصديقتي وحبيبتي، أتذكر ليلة الغول حين كنت أقف أمام النافذة أنظر إليه، وهو يقف في الظلام مختبئاً خلف الشجرة، يحدق في عيني مباشرة دون أن يرمش أو يحركها، لم أكن أرى سوى عينيه ولكني تخيلت ملامحه المخيفة من حكايات والدي، جاءت شادية وأمسكت بيدي وقالت "لاتخف .. لا وجود للغيلان، الغول موجود في رأسك فقط"، تركت يدي من يدها وقلت لها "الغيلان موجودة تحيط بنا وتنتظر الفرصة أن نكون وحدنا لتنقض علينا"، قالت لي إذا تعالى معي للخارج حتى تتأكد من كلامي ولكني رفضت، ثم قالت وكأنها تهددني إن لم تأتِ معي سأذهب وحدي، فلم أملك سوى أن أتبعها، فكيف أتركها تخرج وحدها، فلا يمكن للحياة أن تستمر إن أصابها سوء.
فتحت الباب بحذر وأنا وراءها أصارع الخوف، صرت الآن أمامه والظلام حولي، لا جدران ولا نوافذ الآن تفصل بيني وبينه، توقفت ورجوتها أن نتراجع ونعود إلى البيت، ولكنها سلطت عينينها الجميلة على عيناي فارتجفت وتسارعت أنفاس قلبي، إبتسمت لي وقالت إهدأ لا تخاف، تناولت بيدها حجرٌ من الأرض وقذفته بإتجاه الشجرة التي كان يختبأ الغول خلفها، فطار منه طائراً بعيداً، نظرت لي مرة آخرى وهمست بأمانٍ وقالت " أرأيت لا وجود للغيلان، إنها بومة .. مجرد بومة".
لم تعد للغيلان مكان في مخاوفي، تغلبت مع شادية على كل مخاوفي وأوهامي، فلم أعد أخشى في حياتي من شئ سوى أن أفقدها هي، أحياناً يرسل الله لك شئٌ يصالحك به مع العالم من جديد، فجاءت شادية فرجٌ من الله حين استحكمت حلقات الدنيا، فمالت كفة الحياة مرة آخرى إلى ناحيتي، كان كل شئ معها مختلف، الحديث مختلف، الرابط مختلف، كانت تتشاركني في كل شئ، أحلامي وهمومي حتى تفاصيلي التافهة، كانت تتحكم في مزاجي تحوله متى أرادت، تعرف مل الخبايا التي أجهلها أنا حتى عن نفسي، فكانت هي الشئ الذي أرسله الله لأتصالح به مع العالم من جديد.
كبرنا وكبرت هي معي وكبر معنا كل شئ بيننا، لم يكن علينا سوى أن نرتبط معاً برابطاً غليظاً لا ينفك أبداً، لقد تزوجنا وبدأت معها حياة جديدة، حياة مليئة بالحب والسعادة، فما أجمل أن تجد شخصاً يمسك بيدك في منتصف الطريق وأنت مغمض العينين وتعبر معه مطمئناً أنك ستصل إلى الضفة الآخرى سالماً.
مضت الأيام والشهور وبدأت معها بطن شادية تكبر وتتكور مبشرةً ببهجة جديدة، ولكن فكرة واحدة كانت تسيطر على عقلي، أحاول صرفها والتخللص منها، ولكنها تعاندني وتعود، أستيقظ كل ليلة قرب الفجر، أتسلل إلى الشرفة وأنظر إلى السماء وأتذكر كلمات والدي "النساء في عائلتنا أغلبهم ماتوا عند الولادة هكذا ماتت أمك"، يقطع كلمات والدي صوت شادية تخبرني أن أعود إلى الفراش فهي لا تستطيع النوم إلا في حضوري، أعود إليها وأنظر إلى عينيها الواسعتان وأمسك بيديها وأقول لها راجياً : " كل شئ صار الآن له معنى مختلف، أدركت معكِ أنني لست بحاجة لآخرين، يكفيني أن أكون بجوار شخص واحد أحبه حقاً ليملأ حياتي، وأنا أحبك فلا تتركيني الآن بعد أن وصلنا معاً إلى ما وصلنا إليه "، كانت تبتسم ثم تضع يدها على قلبي وعقلي وتقول لي "أنا دائماً معك هنا لن أتركك أبداً" .
مضت الأيام والشهور أكثر فأكثر حتى جاء يوم الولادة، وقفت في الممر أمام غرفة العمليات والهدوء من حولي يسود المكان، لا أسمع سوى صوت عقارب الساعة في يدي تدور، تارة أنظر إليها وتارة أنظر إلى الأعلى، أتمم وأدعو الله بصوت خافت، حتى فتح الباب وخرج منه الطبيب، سرت نحوه مسرعاً وملامح الخوف تملأ وجهي، رمقني بنظرة حزن ثم قال "البقاء لله .. ماتت الأم والجنين"، شعرت بحرقة في صدري وتاهت الكلمات مني، لم أستطع أن أكون جملة مفيدة للرد عليه، لا أعلم بماذا أشعر الآن ولكنني أعتقد بأنه الوجع، ذلك الوجع الذي إستوطن بداخلي فلم أجد سبيلاً للحياة سوى الموت، أردت الصراخ ولكنني لم أستطع فقد إنهارت قواي بالكامل، سقطت على الأرض وأغمضت عيني وبدأت لحظات فراقي للحياة.
إنتهت الرسالة فأغلقها وأخذ سريعاً يبحث عن الرسالة التالية، فلم يجد سوى رسالة واحدة متبقية، مكتوب على غلافها الرسالة الأخيرة، فتحها فوجدها فارغة لم يكن بداخلها شئ، بدأت التساؤلات تلهث في عقله سريعاً، من هذا الشخص؟ وكيف يرسل رسائل من الموت؟!
فجأة اتسعت بؤرة عينيه وكأنها استقرت على شئ غريب، بدأ هذا الشئ يقترب منه شيئاً فشيئاً حتى وقف أمامه مباشرةً، يعرفه جيداً إنه ذلك العجوز الذي ترك له الرسائل، وقف وظل يحدق في عينيه، ساد الصمت طويلاً بينهما، حتى قطعه العجوز وقال : كيف حالك يا ناجي ؟!
يتبع ..
