لماذا نكتب؟ .. لطالما كُنتُ مولعاً بالاسئلةِ التي تبدو غايةً في البساطة، إذ أن الأسئلة البسيطة تتطلب إجابات معقدة.. معقدة جداً.. ولكن هذا ليس بالضرورة سبب إعجابي بالأسئلة البسيطة، إذ أن الإجابات قد لا تتوفر دائماً باليقين المُشبِع للغطرسة الإنسانية.. ولكنها توفر لك الشك الكافي في مدى حماقة المُجيب (وأحياناً بعض الطمأنينة!).. ولستُ هنا ادعي الذكاء، فأنا سأغامرُ بطرح الإجابة، لتقفوا بأنفسكم على حافة حماقتي.. لماذا نكتب؟ بالنسبة لـ سقراط، كانت مشكلته مع الكتابة أنها تطرح السؤال، إذ أن سقراط آمن في حياته أن الكتابة لا تستطيع أن تُخبرك شيئاً مثل تجارب الحياة الإنسانية.. فمثلاً إذا سألت الورقة وكتبت عليها : (لماذا نكتب؟)، فإنها لم تُعطيك الإجابة، بل ستعطيك نفس السؤال، بينما التجارب الإنسانية قد توفر لك شيئاً من الطمأنينة، فالمواطن الأثيني الذي يمشي في السوق قد يخبرك مثلاً عن رأيه في ماهية الفضيلة.. هذا لن تفعله الورقة.. وليس هذا فحسب، بل كان سقراط يعتقد أن المُشكلة في الكتابة أنها ستضعف الذاكرة الإنسانية.. إذ قال سقراط لأتباعه اليونانيين بأنهم لو مارسوا الكتابة فـ سينسون ما الذي يريدون أن يشترونه من السوق لأن الكتابة تقوم بذلك بالنيابة عنهم.. بالطبع نحن نعرف كل ما نعرفه عن سقراط عن طريق ما كتبه أفلاطون عنه :)
لماذا نكتب؟ .. إنه ليبدو لي أن حلم الكتابة قد داعب مُخيلة الجنس البشري منذ فجر التاريخ.. منذ إنسان الكهف، وحتى البشر الذين يسكنون ناطحة السحاب، منذ أن كنا نلتحف السماء، حتى أصبحنا نتوسد أفخم المراتب، إذ أنه يوجد قاسم مشترك، رابط عجيب، بين البشر في كل العصور، وهي تلك الحاجة الملحة للكتابة، والسؤال لماذا؟ ولنفهم لربما يجب أن نفهم أولاً ما هي الكتابة؟ فأنت تكتب آلاف التويتات زر بعد زر، هواتفنا لا تخلو من تنبيهات مواقع التواصل والرسائل النصية التي نتبادلها بشكل يومي، كانت مكاتب البريد تعجُ بـ رسائلنا مثلما يعجب بريدننا الإلكتروني بـ رسائل (السبام) والإعلانات الترويجية.. إن الكتابة في جوهرها طريقة للتواصل، فنحن نكتب لأننا نريد أن نخبر من سيأتون بعدنا بأننا كنا يوماً هُنا.. وكنا نبحث عن شيئٍ اكبر منا، نحن نكتُب لأننا نعرف بأننا لن نبقى هنا كثيراً لنُخبر من سيخلفوننا في الأرض أننا كنا هُنا .. أننا مشينا في نفس الطرقات التي يتسعكون بها.. أننا كنا إنسان مثلهم، أننا أحببنا في يومٍ من الأيام تلك الفتاة الخجولة التي كانت تستقل نفس الحافلة رغم أننا لا نعرف اسمها، أننا أيضاً كُنا مثلهم، نحب رائحة المنزل في الصباح، نصلي ليلاً في الظلام، نتململ من أعباء المدرسة، أننا بشرٌ مثلهم، وأننا لسنا مجرد أسماء، لكلٌ منا قصة.. أننا كنا نتسلل من المنزل ليلاً، ندعي أن النوم غلبنا في منزل الأصدقاء أملاً في أن تنطلي خُدعتنا على أمنا، أننا كنا مثلهم، نكتب لنواجه الحياة بصدرٍ عارٍ بإنتظارها أن تقتلنا، إن لا أحد ينتصر على الحياة، وإن لا أحد يضرب بتلك القسوة التي تضرب بها الحياة.. أننا مثلهم كل يوم.. نتسائل، هل سيذكرنا التاريخ؟ هل سيكتُب أحد عنا؟ وحين يقرأ أحدٌ كلماتنا التي تركناها على الجدران، أو على قفلٍ تحت جسر علقناها هناك وسط المئات من الآخرين، هل سيدركون أننا كنا بشراً مثلهم؟
ولعل هذا ما كان يحاول مجموعة سكان الكهوف في كهف دي لاس مانوس في الأرجنتين في الصورة أعلاه حين اجتمعوا في الكهف ليتركوا بصمات أياديهم بإختلاف أحجامها.. لقد مارسوا الكتابة.. ليخبرونا أنهم هُم أيضاً كانوا هنا.. وأنهم هم أيضاً، مثلهم مثل الذين يكتبون على الأقفال في جسر الفنون الذي يعبر نهر السين في باريس، والذين يكتبون على جدار مدرسة في أحياء القاهرة القديمة.. أن جميعهم هُنا.. ركبوا الحافلة، صلوا في الظلام.. وأحبوا الفتاة في النافذة المقابلة!
تحياتي/دين