في مثل هذا اليوم و قبل 100 عام أي في 25 شوال سنة 1339هـ وقعت معركة "أنوال" بين المجاهد الغربي محمد عبدالكريم الخطابي القاضي الشرعي، والمدرس، والصحفي، والمجاهد، والأمير، ورئيس الدولة.
ولد في بلدة "أغادير" في "الريف المغربي" سنة 1301هـ/ 1883م، ودرس القرآن والعربية، وذهب لإكمال دراسته إلى "مليلية" ثم جامعة القرويين بـ"فاس".
تخرج منها ليُعيَّن قاضيا في "مليلية"، ثم صار (قاضي القضاة) وعمره آنذاك لم يتجاوز 33 !
وكان خلال ذلك يكتب في الصحف، ويدرس في بعض المدارس.
عمل الخطابي كذلك معلما وصحفيا في صحف ناطقة بالإسبانية، ونال مكانة محترمة لدى السلطات الاستعمارية، وتولى عدة وظائف.
كان يستعد لأمر جلل !
كما عمل مترجما للإسبانية، ووصل به الأمر إلى ترجمة وثائق الجيش والمخابرات، الأمر الذي أعطاه أفضلية تكتيكية في حربه المستقبلية ضد المحتل.
كان أبوه أميرًا على البربر الذين في (الريف المغربي) .. فجاهد مع أبيه في الحرب العالمية الأولى مع الدولة العثمانية، سنة 1334هـ/ 1915م.
اعتقله الإسبان الذين بأيديهم "سبتة" و"مليلية" - ولا زالتا بأيديهم، وهذا ما لا يعرفه أكثر المسلمين- لمدة 4 أشهر ليضغطوا على أبيه ليترك الجهاد.
لكنه تدلى بحبل من السجن، فرمى بنفسه، فانكسرت ساقه، وأغمي عليه، فعثر عليه الإسبان فأعادوه إلى السجن، حيث مكث أربعة أشهر، ثم أطلقوا سراحه.
قتل والده في معركة مع الإسبان سنة 1920م، فابتدأ معهم سلسلة معارك، حيث ابتدأهم بمناوشات أسفرت عن انتصاره وطرد الإسبان من حاميتين مهمتين !
غضب الإسبان وأرسلوا 60 ألف جندي وطائرات وعتاد ضخم، وحذروا القائد فقال مستهزئا: (أنا ذاهب لأمسح حذائي في الريف).لقد غرهم أنهم كانوا ثالث قوة أوربية !
في 25 شوال 1339هـ اقتربت الحملة من بلدة "أنوال" بالريف، فكمن لها الخطابي في قوة من 3 آلاف، فمزّق جيشهم تمزيقًا، وقتل 18 ألف وأسر الباقين !نجى من العدو 600 جندي ففط !
وغنم المسلمون 20 ألف بندقية، و400 رشاش، ومليون طلقة، وطائرتين، وعددا كبيرا من السيارات والشاحنات، وتفرق القتلى على مساحة 5 أميال !
لذا تعد معركة أنوال من أكبر المعارك التاريخية بين المغرب وإسبانيا، كمعركة الزلاَّقة أيام المرابطين وابن تاشفين. وكان لها صدى كبيرا في أنحاء العالم !
كان القائد الإسباني يستهزئ ويقول: (سأشرب الشاي في بيت الخطابي) فحصر الخطابي قواته حصارا خانقا محكما جعلهم يشربون أبوالهم من فرط العطش !!
استطاع الخطابي أن يفاجأهم بطرق عجيبة في القتال، فكان يحفر الخنادق، ويباغتهم في جبال الريف.
ويسجل للخطابي أنه مبتكر تكتيك "الخندق الواحد" أي جندي أو اثنان في كل خندق مع مسافة فاصلة بين خندق وآخر حتى لا تكون الخسائر البشرية كبيرة.
وكذلك هو أول من ابتكر طريقة "حرب العصابات".
ورفض الخطابي أن يستقبل سلاحا من الخارج، وكان رفاقه يدعونه لطلب الدعم فكان رده: (السلاح الذي أريده موجود عند عدوي) .فكان يغنم سلاح العدو !
ونصر الله الخطابي نصرا عجيبا في وقت غريب، على جيش أوربي مسلح بسلاح حديث، لكن الحماسة الإيمانية الدافقة قلبت كل المعادلات، وأخرست الألسنة، خاصة وأنه استعد بما يستطيع.
وكان وقع الهزيمة في أوربا مدويا ..واستغل الخطابي الفرصة، فطهّر الريف المغربي من الأسبان، وحصرهم في "سبتة" و"مليلية" فبقوا بها حتى اليوم.
وأقام إمارة إسلامية كبيرة، يسكنها نصف مليون، وعملتها (الريفان) !
وطبق الشريعة، ووطد الأمن، وأنشأ المدارس والمستشفيات، وأرسل البعثات لأوربا.
أسس الخطابي دولة مُنَظَّمة دون أن يتنكَّر لسلطان مَرَّاكُش، أو يتطلَّع إلى عرشه؛ بدليل أنه منع أنصاره من الدعاء لنفسه في خطبة الجمعة.
وقام بتحويل رجاله المقاتِلين إلى جيش نظامي، وقام بشق الطرق، ومد أسلاك البرق والهاتف، وأرسل وفودًا إلى العواصم العربية للحصول على تأييدها.
فشن عليه الإعلام الأوربي حملة عنيفة لأن (جمهورية الريف) كانت الوحيدة المحررة بينما يقبع الوطن العربي من بغداد إلى نواكشوط تحت احتلالهم.
هنا اجتمعت أوربا لتجهض الإمارة التي لو بقيت لغيرت التاريخ، وتوجه الأسبانيون سنة 1924م/ 1343هـ إلى أجدير (أغادير) عاصمة الخطابي في 100 ألف نصراني!
وحاصروه 3 أسابيع، فأظهر المجاهدون بطولات نادرة، واستطاع الخطابي وجنده أن يقتلوا من العدو 4 آلاف .. ثم اضطر الأسبان للانسحاب إلى مدريد !!
هنا أحست أوربا بالخطر فأرسل المارشال الفرنسي حاكم الجزائر إلى فرنسا: إن انتصار العرب في الريف يعني إنشاء إمبراطورية إسلامية، وفتحا لأوربا !
وبهذا التخويف دخلت فرنسا الحرب ضد الخطابي، على رغم أنف البرلمان الذي كان معارضًا، فاجتمعت إسبانيا وفرنسا عليه في جيش عدده نصف المليون !!
وحاصر الأسطول الفرنسي المجاهدين، وكانت الطائرات منتظمة في 44 سربا، وصارت تقذف بأنواع القنابل، والخطابي وجنده صابرون في خنادقهم.بل إنهم قد كبدوهم خسائر جسيمة!
صبر الخطابي حتى إن صحفيا أمريكيا يقول: دخلت عليه في خندق أمامي، والطائرات الإسبانية والفرنسية تقذف المنطقة بحمم هائلة، فوجدته متبسما مرحا يضرب ببندقيته الطائرات، فتعجبت من هذا الرجل الذي استطاع أن يحافظ على إيمانه وعقيدته في هذه الظروف وتمنيت المكوث أكثر مع هذا الرجل العظيم !
كان المسلمون حتى في الهند يستقبلون انتصاراته بدموع الفرح الشديد، وذلك أن جهاده وافق إلغاء الخلافة العثمانية، فكانوا يرجون عودة الخلافة على يديه. لكن اليد الواحدة لا تستطيع التصفيق.
يقول "كورتي" عضو مجلس العموم البريطاني: إن هذا الرجل الذي ينادي باسمه أهل آسيا وإفريقيا والهند ويتغنون باسمه، إنه لخطر عظيم على أوربا !
ويقول:إنه زعيم يعرف كيف يجعل الجماهير تنقاد إليه، حتى صار الناس في الهند وبغداد والقاهرة يرون فيه رجلاً يصح أن يكون أميراً للمؤمنين.
ثم أراد الله أمرا كان مفعولا ..ولأن الكثرة تغلب الشجاعة، فجيش المسلمين 20 ألفا، وهؤلاء نصف مليون معهم الطائرات والأسلحة التي هزموا بها ألمانيا وإيطاليا والدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
وزاد الأمر شدة خيانة بعض الطرق الصوفية؛ حيث كانوا يوزعون منشورات تقول إن القتال معه ليس جهادا !
وخانه بعض رؤساء القبائل الذين اشتراهم العدو !
ولم تدعمه الدول العربية والإسلامية الساقطة في قبضة الصليبيين أو الشيوعيين ..
عندها لم يجد مفرا من التسليم بعد أن لم يبق معه إلا 200 مجاهد !
لكن تسليم المجاهد الخطابي كان تسليم الأبطال، فقد بقي العدو يفاوضه لأجل الصلح سنة كاملة، وكان في البداية يرفض الاستسلام رفضًا باتًّا.
فأشار عليه رفاقه بحقن الدماء، فقد كانت الطائرات تقذف الغازات السامة، وتقتل النساء والأطفال، فأشاروا بالصلح والاستعداد للقتال بأقرب فرصة.
لقد ثبت أن أوروبا الهمجية استخدمت الغازات السامة ضد الأطفال والنساء، وما زال شمال #المغرب يعاني من آثارها إلى اليوم! حيث تسجل هناك أعلى نسب إصابة بالسرطان !
هنا لم يجد الليث بدا من الصلح، لكن العدو واصل قذف القرى، فقال لهم الخطابي: (إن حضارتكم حضارة نيران، فأنتم تملكون قنابل كبيرة، إذًا أنتم متحضرون أما أنا فليس لدي سوى رصاصات بنادق، وإذًا فأنا متوحش) وكان بهذا يستهزئ بهم، ويقيم الحجة عليهم؛ لأنهم كانوا يتهمونه بالبربرية والتوحش !
وقال: الهزيمة جاءت من الداخل، ولو لم يكن هناك دعم داخلي للمحتل لانتصرنا.
وسلم البطل نفسه بطريقة مهيبة حيث اقتحم بجواده الصفوف الفرنسية.
سلم البطل نفسه للفرنسيين بعد كتاب موثق للصلح وإبقائه في الريف، فخان النصارى كعادتهم ونفوه لجزيرة "رينيون" بالمحيط الهادي شرق مدغشقر لمدة 21 سنة !
في السنوات العشر الأولى منعوه من كل وسيلة اتصال بالعالم الخارجي فحرموه من الجرائد والمجلات ومن كتبه التي أتى بها معه، فقضى وقته بالتأمل ووالذكر والصلاة..
فسبحان من صبره؛ إذ لو كان غيره لأصابه جنون أو أمراض النفسية، لكنه الإيمان إذا خالط القلوب صنع المعجزات.
ثم أتى الفرج !حيث بدا للعدو أن يعيده إلى فرنسا ليقيم في ضواحي باريس، فأتت به سفينة من الجزيرة ومرت ب عدن للتزود، فتسامع الصالحون من اليمنيين والعراقيين والفلسطينيين في عدن.
تسامع هؤلاء الغيورون بمرور سفينة الخطابي، فأبرقوا لمصر، وطلبوا من المكتب المغربي فيها أن يحتالوا لإنزاله من هذه السفينة التجارية.
فدبر الأستاذ الفاضل عبدالرحمن عزام - وهو أول رئيس للجامعة العربية - دبر الأمر مع "الملك فاروق"، وكان ذلك سنة 1947م، وصعد برجاله إلى السفينة.
وطلبوا من قائدها أن ينزل الخطابي لمقابلة الملك والسلام عليه هو وأخوه وعمه عبدالسلام، فانطلت الحيلة على القبطان.
ولما نزل أبقته مصر عندها ورفضوا إرجاعه.
هنا ثارت فرنسا وقامت قيامتها، لكن بعد فوات الأوان ..
ومن الطريف أنها اتهمت مصر بالخيانة والغدر، ونسوا أنهم هم من غدر به ونفاه 21 سنة !
رمتني بدائها وانسلت .
واتصل الخطابي بدعاة مصر وكبارها، ومنهم حسن البنا -رحمه الله- وأعجب به وبدعوته، ولما وصله خبر اغتياله بكى وقال: (يا ويح مصر والمصريين).
واتصل بمكتب المغرب العربي في القاهرة حيث عيّنوه رئيسا له، وأخوه نائبا.
وصار يعمل مع أعضائه لتخليص بلادهم من الاستخراب الأجنبي البغيض.
ولما جاء الهالك "جمال عبدالناصر" في انقلاب يوليو المشئوم سنة 1952م بمصر فترت العلاقة بينه وبين الخطابي، بل ضيقوا عليه الخناق وضعف نشاطه !
وبعد 9 سنوات مات الخطابي،في 11 رمضان 1382هـ/ 1963م،
ولم تذكره وسائل الإعلام المصرية بكلمة، ولم يودع الوداع اللائق به.
رحمه الله وغفر له.ورغم استسلامه فإن عددا كبيرا من الكتّاب الغربيين أجمعوا على أنه خسر عسكريا لكنه انتصر أخلاقيا، وجسّد خلال رحلته أن "قوة الحضارة أسمى وأبقى من حضارة القوة". !!!
ومما يذكر أن اليساري الأرجنتيني "غيفارا" عند زيارته للقاهرة التقى بالخطابي وحيّاه كأحد أول الملهمين لحركات التحرر في العالم.
تقول ابنته عائشة أنه كان يقول:
(أنا لا أريد أن أكون أميرا ولا حاكما، وإنما أريد أن أكون حرّا في بلدي، ولا أطيق مَنْ سلب حريتي أو كرامتي) .
وقال عنه المؤرخ محمود شاكر:
هو مثل للعربي الأبي الذي لا يقبل ضيما ولا يقيم على هوان، لقد علمنا بفعله لا بلسانه أنه "لا مفاوضة إلا بعد الإستقلال".
كتبها/ فهد بن حمد البيضاني