"عادة ما يكون السكون التام دلالة على أن العاصفة تتأهب للمجئ في أي لحظة "


Image title


جلس على المقعد الخشبي الصغير بعد أن مسحه بيده مسحة خفيفة، نظر إلى ساعته ثم أخذ شهيقاً عميقاً وأخرجه زفيراً من فمه، دائماً ما يحب أن يأتي إلى هذا المكان الهادئ، يجلس لمدة ساعة يقوم فيها بحل الكلمات المتقاطعة في الجريدة ثم يذهب.


" مدينة مكونة من أربع حروف يطلق عليها مدينة الضباب" ... 


-"لندن" ..


لم يقطع ذلك الصوت عزلته مع الجريدة، رفع رأسه سريعاً ونظر إليه مبتسماً وشكره ثم أكمل ما يفعل في تركيز تام حتى قال ذلك الرجل مجدداً: 


-هل تأتي إلى هنا كل يوم ؟


رفع رأسه والإبتسامة لا تزال تعلو وجهه ليقول: 


-أجل !


-هذه ثالث مرة آتي فيها إلى هنا فأنا عادة لا أحب مثل هذه الأماكن الهادئة.


نظر إليه هذه المرة دون أن يبتسم وسأله مندهشاً:


-لماذا إذن مازلت تأتي إلى هنا ؟!


-كنت أتمشى بالقرب من هذا المكان ذات يوم ثم جلست على هذا المقعد لأستريح قليلاً، فوجدت تلك الحقيبة موضوعة أسفل المقعد، خشيتُ أن يأخذها أحد غير صاحبها فحملتها معي، وآتي إلى هنا كل يوم في أوقات متفرقة وأجلس على المقعد أنتظر حتى يأتي صاحبها يسأل عنها ويأخذها.


-ربما يمكنك أن تفتحها وتبحث فيها عن شئ يدلك على صاحبها.


سعل سعالا قويا ثم تنحنح بعدها وقال:


-أرجو منك المعذرة فكما ترى أنا رجل مسن وقد سرق العمر مني بريق عيناي فلا أجيد القراءة جيداً، ربما يمكنك أنت أن تفتحها وتبحث فيها عن شئ يدلنا على صاحبها.


تردد قليلاً ثم أخذ الحقيبة وبدأ يبحث فيها، فلم يجد فيها سوى مجموعة من الرسائل مرصوصة فوق بعضها وملفوفة بحبل قديم وورقة مطوية أسفل الحبل، سحب الورقة من تحت الحبل دون أن يقوم بفكه، تحسسها بأنامله فوجد عليها بعض التراب وآثار لحبر أسود، فتح الورقة وبدأ بالقراءة وهو مذهولاً ..


" إليك صديقي المجهول .. تحية طيبة وبعد،،

ربما كنت أتغاضى دوماً عن ذكر دورك في حياتي ولكني لا أجد برهاناً لذلك غير أن أخُط لك بقلمي تلك الكلمات، قد يظن البعض أني قد مسني الشيطان وتمكن الجنون مني كي أخاطب شخصاً مجهولاً، ربما يكونوا صادقين ولكني بداخلي أعلم ماذا أفعل، أنت لست مجهولاً يا صديقي، فأنا أراك دائماً معي، أراك في كل لحظة مرت في حياتي، هذا أنا كاتب تلك الرسائل، إذا كنت تقرأ هذه الكلمات الآن فقد شاء الله أن تصل وتُقرأ، إليك كلماتي هذه فتلقفها بيمينك واتلوها في خشوع فغير مسموح بقراءتها فقط "


نظر إلى جواره فلم يجد الرجل المسن، مسح المكان حوله بنظرة متفحصة ثم استقر على وجهه، نادى عليه بصوت جهور ولكنه لم يعره أي إنتباه، ظل يتبعه بنظرات دهشة وذهول حتى غاب عن الأنظار تماماً.


يتبع ..