الحمد لله الذي خلق كلّ شيء فأحسن خلقه، وما أجمل أن نُبحر ونتفكّر في مخلوقات الله عزّ وجل فقد سخّر ربُّنا للنّاس أشياء إمّا أن يكون مسيّراً فيها وإمّا مخيّرٌ في قبولها أو ردّها، فلا يستطيع أحدٌ تغيير تلك القاعدة الكونية والّتي يجب على الإنسان الرّضاء بها خيراً أكانت أم شرّاً فلا يوجد مكانٌ للشّر في تقدير الله عزّ وجل لأنّه لا يُقدّر إلّا الخير دون علم بعض البشر فمن كان إيمانه قويّاً بما يكفي لاستيعاب وفهم الرّكن الأخير من أركان الإيمان بشكلٍ صحيح ألا وهو (الإيمان بالقضاء والقدر) يستطيع إدراك ذلك بسهولة ورضاء نفس مؤمنة ومطمئنة .
تموت أجيالٌ لتحيا أخرى وتجفُّ مياه بئرٍ لتنبع عشراتٌ أكثر وفرةً وأطول عمراً لكن الحياة لا تتوقّف فهي مستمرةٌ إلى قدرٍ غير معلوم ولا يمكن عودة أيامٍ مضت ولا يمكن إيقاف الوقت قدر شعرة إلى أن يأذن المولى بذلك.
ذات يوم قال لي والدي : ( يا ولد ) ! وقبل أن يكمل كلامه قلت : أتقول ولدٌ ولحيتي ملأت وجهي ؟؟ فقال: لن أقول ما كنت سأقوله بعد سماعك لكن تذكّر تلك الكلمة جيداً يا ( ولد ) وكرّرها مبتسماً ثمّ مضى في طريقه ، حزنت حزناً شديداً بعد سماعه وهو يكرّر تلك الكلمة وأيقنت أنّه لن يتراجع ويسحب ما قاله لأنها كالسّهم الذي يخرجُ من القوس ، ومع ذلك لم أستطع تفسير ما قاله وما القصد من ذلك ، ومرّت الأيّام والسّنين حتّى أتاني رسولٌ في ليلةٍ لا ولن أتمنّى لأحد أن يعيش لحظاتها وهو يحمل خبر وفاته ، وأنا في بلادٍ وهو في أخرى وهذا أكثر ما أحزنني لأنّي لم أحظ حتّى برؤيته بسبب الغربة العمياء وبعد المسافات.
كان ذاك الموقف أكثر موقف مؤلم بالنسبة لي وفي ذات الوقت من زرع في قلبي تقبّل قضاء الله مهما كان بكل رضاء من غير سخط وتذمّر وقلت لله ما أعطى وله ما أخذ والحمد لله ، أمضيت ليلتي بلا نوم وحيداً بين جدران الغرفة الأربعة والظّلمة تملأ المكان مفكّراً في الذّهاب إلى المدينة علّي أكن مواسياً لرفيقة دربه أمّي الصّابرة ، وبالكاد استطعت الوصول في التاسعة صباحاً لكثرة مصاعب ومخاطر الطّريق وازداد الألم أضعافاً بقول أحد الجيران ( أمّك غادرت المدينة ) ...!!
فلم يكفني عدم رؤية وجه أبي بل اكتملت برحيل أمّي لمكانٍ لا أعرف سبيله وهي برفقة إخوتي الستّة وما أصعب الشّعور بالوحدة وسط قلبٍ مكسورٍ من الحزن وعينٍ ضاقت بها الدّنيا من الدّموع ، وبعد شهر كامل في بلاد الغربة الّذي كنت أحسبه أعواماً وأنا لا أجد من يمسح دموعي أو من يشاركني مأكلي ومشربي استطعت بأعجوبةٍ الإمساك بطرفِ خيطٍ يوصلني إلى صاحبة المكان الّذي خلدتُّ فيه تسعة أشهر قبل أن أرى الدّنيا ، يا فرحتي بلقائك يا أمي .
كيف توصف والأحزان تملؤها والأسى حجب السّرور مرتحلا ، عندها لم أكن أستطيع ضبط نفسي أو التّحكم بدموعي من كثرة الحزن ، قطعت وعداً على نفسي أن أصل بأيّ وسيلةٍ كانت حتّى لو كلّفني ذلك التّضحية بروحي من أجل رؤية من ربّتني وترعرعت تحت جناحها الدافئ والّذي كنت أستمدُّ منه قوّتي بعدم التّفكير في مواجهة مصاعبِ ومخاطر رحلةِ اللّقاء .
عزمت الخروج متمسّكاً بالوعد الّذي قطعته على نفسي وبالفعل بدأت رحلتي الّتي هي أشبه بالمعركة المصيرية أو بالبحث عن الإبرةِ في كَومةِ القشّ فقد استمرّت رحلتي ما يقارب أربعة أيّام لم تعرف عيني فيهم النّوم أو السّكون، فكم واجهت من مشاق وتجاوزت أخرى وكيف نجوت من إحداها بفضل الله .
وأخيراً وجدت ما كنت أبحث عنه منذ شهرٍ وخمسة أيّام ألا وهي المنطقة الّتي انتقلت إليها أمي الغالية، هل وصلت ؟؟ هل سأراها ؟؟ هل هذه حقيقة ؟؟ بدأت تدور في رأسي تلك الأسئلة ولم أصدّق ما جرى فقد نسيت كلّ التّعب الّذي عانيتهُ لأجل الوصول ، وإذ برجلٍ يتوقّف على جانب الطّريق ويترجّل من السّيارة قائلاً يا عمّاه...!! نظرت إليه بكلِّ تعجّبٍ وقلت: عمّي ..!! فما كان منه إلّا أن احتضنني وعينه قد لمعت وقال : هيّا معي فأمّك بانتظارك وقلبها لهفانٌ لِرؤيتك فلا تُضع الوقت .
بمجرّد سماعي ذاك الكلام بدأ نبض قلبي يتزايد رويداً رويداً واقشعرَّ بدني وبدأت أرتجف حتى أنّي لم أستطع التّكلُّم حتّى وصلنا إلى أمام البيت الّذي تخلد فيه ، عندما نزلتُ من السّيارة رأيتُ يدان تلوّحان من النّافذة وعينانِ تبرُقان وتقولا ( لقد عاد ولدي ) يا أولاد ( لقد عاد اخاكم ) فما كان منها إلا أن اتّجهت إلى الباب وتنادي يا أمّي يا أمّي حمداً لله على سلامتك أيّها الولد المناضل .
وأخيراً اجتمعت مجدّداً بعائلتي وانتهى العناء وانتهت الوحدة والغربة وفي الحقيقة لا أستطيع أن أصف شعوري تلك الّلحظة وكيف توصف لحظةُ لقاء ولدٍ مع أمِّه بعد كلّ ما جرى ، عندها تذكّرت ما قاله أبي وما قصده من قوله ( يا ولد ) ، فقد علّمني رحيله أنّ كلانا نعمةٌ للآخر ولا أحد يستطيع تقدير قيمة شيء إلّا بعد فقدانه لكن بالنّسبة لموقع الأب أو الأم فإنّ الواجب على الولد أن يقدّر قيمتهما وليس العكس لأن من كان فوق رأسه وهو يبكي عندما أتى إلى الدّنيا ومن ربّاه حتى أصبح شابّاً هما والديه ، هذا يعني أن ثروة الولد الأغلى في الدنّيا هي الوالدين .
سيبقى وداعُ أبي حسرةٌ في قلبي ، فيا رب ارحم أبي واجعل مكانهُ الجنّة وأطل بعُمرِ أمّي وارزقني بِرّها و ألهمنا جميعاً الصّبر ولا تحرِم أحداً ممن يُحب .
اللّهم آمين