يُقالُ أن المالَ هو عصب الحياة.. لكنه ليس كل الحياةِ، حيث أن الأعصاب وحدها لا تكفي لاستمرار أي كائن حي على وجه تلك البسيطة..
وأما عن الثراء.. فهو كثرةُ الظلِ الزائل والعاريةِ المسترجعةِ عندَ أحدهم، والثراءُ في حدِّ ذاتهِ ليسَ عيباً، بل هو فضيلةٌ إذا ما استُغِلَّتْ بما يرضي الله تعالى ويتوازن وحجم الفجوةِ بين الأغنياء والفقراء، أي أن تلك الفجوة كلما قَلَّتْ عَمَّ الخيرُ الأرض.
أما نحنُ الآنَ، فقد أصبحنا في زمانِ الثراءِ الفاحش المتفحش، الثراءِ الذي يجعل أحدَهم يُجْزِلُ العطاءَ لمن يجدُ كلبَتَهُ التي اختفت من قصرهِ "يا عيني"، في زمنٍ يبحثُ فيهِ الكثيرُ من المعدمين عن لقمةِ عيشٍ لأطفالهم الجوعى، أو عن دواءٍ لأطفالهم أو عجائزهم المرضى، أو حتى عن لقيماتٍ تُقِمْنَ صلبه، أو تحافظَ على بقائهِ حَيّاً.
للأسف الشديدِ، نحنُ في أيامٍ تَكْثُرُ فيها القنواتُ المتخصصةُ في مجال طهي أشهى وأطيب وألذ الطعام حُلْوِهِ ومالِحِهِ، ومَقْليِّهِ ومَشْوِيِّهِ، بينما نجد الآلاف من بني جلدتنا يأكلون من القمامةِ ويبحثونَ عن هياكل الدجاجِ لأطفالِهِم، بل إن منهم من لم يشم رائحة اللحوم منذُ سنينْ
هَلْ هؤلاء الذين نسوا ذلك الحَقَّ المعلومَ للسائلِ والمحروم، واستبدلوه بذلك الترف الذي جعلهم يتعالونَ على خَلْقِ الله، وجعلَهُمْ مدعاةً لسؤالِ الناس لهم، من أينَ لكمْ هذا؟، يكتبون في قاموس حياتهم كلمة موت؟ أو حتى يعرفونَ تِلكَ المادةَ اللغوية "م و ت"؟ أم أن الموت عندهم له طقوص موغلة في الثراء هو الآخر؟ هل يعرفون تلكَ الآيةَ الكريمة:"ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يومَئذٍ عَنِ النَّعِيْم"؟ ألا يَظُنّونَ أَنَّهُمْ مَبْعوثونَ ليومٍ عظيم!!
لا والأدهى والأَمَر أنك تجد هؤلاء الأثرياء الموغلون في الطبقية يظهرون علينا في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة بوجوههم الكالحة وأصواتهم التي تنعق كالغربان، تارةً في موسمٍ كرمضان مثلا ليحثوا الناس على التبرع لمستشفى كذا أو صندوق كذا أو الهيئة الفلانية، وتارَةً أخرى يطالبون الفقراء المعدمين بمقاطعة السلع التي غلى ثمنها والصبر والتحمل، وتارَةً ثالثةً يُسَفِّهونَ من الفقراء ويرونهم سبب خراب الوطن!! والأعجب من ذلك أنك تجد قبل وبعد إعلانات التبرع الخيرية هذه إعلانات أخرى مستفزة، لكن هذه المرة لإغراء أصحاب الأرصدة الفلكية بامتلاك شقق وفيلات في أفخم مناطق العاصمة، فتجد إعلانًا لمشروع كذا العقاري الفخم يَعْقُبُهُ إعلان لتسول أموال الناس وحثهم على التبرع!!
إِنَّ الحِكْمةَ من خَلْقِ اللهِ للناسِ طَبَقاتٍ، ليست في أن يجعلَ الغنيَّ يَطَأَ رأسَ الفقيرِ بِنَعْلَيه، بل الحكمة كل الحكمة في ذلك هي أن يجعلَ بعضَنا في خدمةِ بعضٍ ليَتَّخِذَ بَعْضُنا بعضًا سُخْرِيّاً، ورَحْمَةُ اللهِ خيرٌ مما نجمع.