الصيف والمشي على الرصيف!

بقلم

محمود سلامه الهايشه

كاتب وباحث وأديب مصري

[email protected]

Image title
الشوارع والطرق العامة في المدن الكبرى المزدحمة بالسكان بالدول النامية

كنا ونحن صغار في المرحلة الابتدائية ندرس في كتاب الدراسات الاجتماعية، مناخ جمهورية مصر العربية، وكان هناك عبارة نحفظها عن ظهر قلب تلخص مناخ القطر المصري، ألا وهي: "دافئ ممطر شتاءً، حار جاف صيفًا"، ومع مرور السنين، وبعد أن كبرنا، تغير هذا المناخ تمامًا؛ بسبب التغيرات المناخية التي ضربت العالم بشكل عام، ومصر بشكلٍ خاص، وتغيُّر مناخ مصر يرجع في المقام الأول لارتفاع عدد السكان بشكل كبير، مصحوبًا بارتفاع في الكثافة السكانية في الكيلومتر المربع من وحدة المساحة، فما زال السكان يتمركزون حول ضفتي نهر النيل، وارتفاع الملوثات بكافة أشكالها؛ مما أدى إلى تلوث المياه والتربة والهواء.

لم يتعود أغلب المصريين بالطبع - والعبد لله أولهم - المشي على الرصيف المخصص للسير على الأقدام عليه طوال العقود الماضية، نستطيع أن نقول: سلوك خاطئ، عادات وتقاليد، كلام كنا نسمعه في الروضة والمرحلة الابتدائية، ولكن يدخل من أذن ويخرج من الأخرى، أو لا يُسمَع من الأساس، أو كما يقال في المثل الشعبي المصري: (ودن من طين، وودن من عجين)، ولكن إحقاقًا للحق، المشكلة ليست في الناس التي لا ترغب في السير على أرصفة الشوارع، والتي من المفترض أن لكل شارع رصيفًا أيمن وآخر أيسر؛ أي: على جانبي الطريق، ولكن تجد في الغالب الأعم هذا الرصيف إما غير مؤهل للسير عليه؛ لأن البلدية أو إدارة مجلس المدينة أو الحي يقوم بأعمال صيانة وترميم وإصلاح لهذا الرصيف، وإما لاحتلال بعضٍ من الباعة الجائلين لهذا الجزء من الرصيف أو ذاك، بل وتحت الرصيف في الشارع، وبالتالي فمن أراد السير على الرصيف سيجده مقطوعًا، أما إذا كان هذا الرصيف يقع أمام محل، فستجد المحل عرض بضاعته في كامل الرصيف أمام وجهته، وأيضًا محتلاًّ جزءًا من الشارع بخلاف الرصيف، لدرجة قد تجد أن الشارع به حارتان أو ثلاث لمرور السيارات، ولكن ما هو متاح لمرور المركبات هي حارة واحدة فقط لا غير، والباقي عبارة عن فراشة لبضائع الباعة الجائلين أو المحال المقابلة لهذا الطريق، وبالتالي وبهذا المشهد لا يجد المترجل مكانًا يسير فيه ولا على الرصيف المخصص لذلك الأمر، ولا في الشارع المخصص لمرور السيارات والدراجات العادية والبخارية، وآه ثم آه من الدراجات البخارية (الموتوسيكلات) أصبحت ظاهرة من الظواهر السلبية في الشارع المصري، كانت في الماضي لا يركبها سوى الرجال الكبار في السن، وليس الشباب والمراهقين بل والأطفال في الآونة الأخيرة، فكان يستخدمها الموظفون للذَّهاب إلى أعمالهم، وخاصة الأعمال التي كانت تحتاج الوصول إلى أماكن مترامية الأطراف؛ كالمهندسين الزراعيين، والمرشدين الزراعيين، والأطباء البيطريين، ورجال المرور... إلخ من الوظائف التي كان يسير عليها الموظف في طرق وعرة، ولكن بعدما دخلَتِ الصين - أو كما يطلق عليها الآن في مصر: "الخالة الصين" - على الخط وفهمها لسلوكيات الشعب المصري وحالته المزاجية والنفسية، أنتجت دراجات بخارية خفيفة ورخيصة الثمن، يقترب سعرها من سعر الدراجات العادية أو الكهربائية، وأصبحت في متناول المواطن العادي محدود الدخل؛ مما جعل الأهالي وأولياء الأمور يشترونها للأطفال واليافعين كهدية، مثلها مثل الهواتف المحمولة، كأنها لعبة ينطلقون بها في الطرقات بشكل عبثي ليل نهار، بسرعات جنونية، دون مراعاة لأي مبدأ من مبادئ سير تلك الدراجات أو قواعد المرور المتعارف عليها، وأبسطها السير في الاتجاه الصحيح، بل في الغالب الأعم يسيرون في عكس الاتجاه متخطين البَشر والحَجر، والدواب والسيارات، وأي شيء كان يعترض طريقهم في لمح البصر!

وحتى فترة قريبةٍ جدًّا كانت تلك الموتوسيكلات تسير في كل شبر من أرض مصر بدون ترخيص من إدارات المرور، وليس لها أرقام وليست مسجلة، ولا يعلم أحد مَن صاحب هذه الدراجة أو تلك؛ لذا انتشرت عصابات سرقة تلك الموتوسيكلات، وبالطبع لا يستطيع مالكها أن يذهب لقسم أو مركز الشرطة ويبلغ عن سرقتها، وكم من الجرائم تم ارتكابها أو ما زالت ترتكب باستخدام هذه الوسيلة الخفيفة والسريعة والرخيصة نوعًا ما، ففي إحدى المرات سألت صديقًا لي كان يمتلك موتوسيكلًا:

• لماذا لم ترخصه وتعلق أرقامًا مرورية عليه؟!

فرد مبتسمًا:

• ببساطة شديدة، الموتوسيكل غير المرخص إذا أحببت في أي وقت بيعه، يكون الأمر سهلًا وسريعًا، بل وبأعلى سعر، بينما الموتوسيكل المرخص لا يباع، وإذا قبل أحد شراءه يكون بثمن بخس؛ لأن ذلك يحتاج التنازل عن الرخصة بإدارة المرور، وأن يكون المشتري حاصلًا على رخصة قيادة الدراجة البخارية!

من الحوار السابق يتضح حجم الكوارث التي تنتج عن وجود القانون المروري الخاص بتلك الموتوسيكلات وعدم تطبيقه وإنفاذ بنوده ومواده، والقاعدة تقول: أي قانون صادر ولم يعمل به، فهو والعدم سواء!

وفي الآونة الأخيرة، بدأت شرطتا المرور والمرافق، بالإمساك بالموتوسيكلات غير المرخصة والتي تسير عكس الاتجاه، وتحرر محاضر وغرامات مادية كبيرة على راكبيها، وهناك عقوبات قد تصل للحبس والسجن، ولكن ما زالت سلوكيات مالكيها من الصبية بنفس النهج، لدرجة أنها أصبحت من أسباب الموت والإصابات الأولى في مصر، حيث يقول الناس عنها بأنها مميتة من اسمها، مقسِّمين الاسم إلى مقطعين: (موت – وسيكل)!؛ كذلك إزالة إشغالات الطريق من باعة جائلين والمعروضات أمام المحلات، الذين يعودون لنفس التصرفات الخاطئة بمجرد انتهاء حملة المرافق الشرطية!

فقد أصبح الإنسان المصري الذي يستخدم أرجله كوسيلة مهمة من وسائل مواصلاته مضطرًّا لتغيير سلوكه والسير على الرصيف؛ لأنه لم يعد يخشى السيارات بجميع أحجامها وأنواعها؛ بل يرتعب من الموتوسيكلات والتروسيكلات (الموتوسيكل المركبة فيه عربة صندوق تسير على عجلتين للنقل والتحميل، كبديل مستحدث للعربة بحمار أو حصان "الكارو")!

عودة لذي بدء؛ طالما أصبح الإنسان المصري مجبرًا على السير على الرصيف (أو كما يقال عنه بالعامية: "التل توار)"؛ خوفًا من اعتراضه لحركة سير الموتوسيكلات، وضيق حارات مرور السيارات، وبسبب ارتفاع حرارة الجو نهارًا، والرطوبة ليلًا، فلسوف يغرق في أمطار المياه التي تتساقط فوق رأسه، ومصدرها خراطيم صرف أجهزة التكييف، والتي تعمل في أوقات وجود الكهرباء، المقطوعة لدرجة أننا لا نستطيع أن نقول: إنها موجودة، ولا موجودة حتى نقول: إنها لا تقطع، التي تصرف الرطوبة الزائدة في الهواء الطلق، ولا يوجد صرف خاص يأخذ من وحدات التكييف إلى بالوعات الصرف الصحي الطافحة في الشوارع؛ بسبب عدم قدرة شبكة الصرف على استيعاب حجم الملقى فيها؛ بسبب بناء أبراج سكنية لم تكن شبكات البنية التحتية مستعدة لاستيعابها، وقدرتها أقل منها بكثير، فيضاف سبب آخر جديد يجعل المواطن يمشي على الرصيف صيفًا!