لأسباب تتناثر في بطون شعراء وأرزقية، سياسيون وهواة و"زياطين"، يشهد "الراهن" تمددا في مواسم الهجوم علي الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فلم يعد يونيو ــ فيما يبدوــ كافيا،لاهالة ـ أو محاولة إهالة ــ المزيد من الغبار علي التجربة التي باتت في ذمة التاريخ ،منذ رحيل صاحبها قبل ما يقارب النصف قرن الا قليلا ..
وسط اكوام الهراء، والاتهامات المنطقية وغير المنطقية،وافتعال "نوستالجيا " مكذوبة لزمن متخيل ، تناقض جمالياته المزعومة حقائق التاريخ ، بعيدا عن كل تلك الضوضاء التي افرزها فراغ سياسي وثقافي ومجتمعي اشبه بـ"ثقب أسود عملاق" يبدوأن ثمة بعث جديد ينتظر الناصرية،
الرئيس الراحل الذي طاف في صدر شبابه بكافة الاحزاب،والتيارات السياسية،بما فيها التنظيمات ذات الطابع الميلشياوي، وجرب حظه في الكتابة، وانشغل بقراءة عصره مكتوبا ومعاشا ، صاغ رؤيته عبر وقت طويل، ومؤثرات متعددة،لتأتي في النهاية اقرب ما تكون الي "توجه فكري " منها الي ايدولوجيا أو مذهب سياسي،
توجه قوامه رفض الهيمنة وتقديس فكرة الاستقلال والتحرر الوطني،في ظل مشهد سياسي عالمي كانت قواه الاستعمارية "ذات الطابع الكولينالي" تغرب ، مفسحة الطريق لقوي جديدة، اشد وحشية ،وان كانت ذات وجه يدعي التحضر والمدنية ..
ان اي محاولة لتأطير "الفكرة الناصرية " ينبغي ان تنطلق ــ من وجهة نظرنا ــ من تلك الروح المتحررة ، الرافضة لمكاسب الخضوع والتبعية ، لتدفع راضية اثمان استقلال القرار،غير عابئة بحجم المخاطر ، فيما قد يعتبره "العقلاء" مخاطرة وربما مقامرة ، دونما استيعاب لفكرة وجود ما هو اغلي من امانك الشخصي ، وان ما يصفه البعض احيانا بـ"الحنجورية " ليست الا انعكاسا لتلك الروح المتمردة الراغبة في معانقة افق السماء حتي لو كان الثمن قاسيا
الناصرية اذن هي اطار فكري/مشروع ،وليست مذهبا او فلسفة، او منهجا ، وبالتالي فهي تحمل في جوهرها قدرة كامنة علي التطور، والمواكبة ، والتجدد الذاتي من خلال اعادة قراءة ومساءلة الواقع ، والاعتراف بالثغرات في اسلوب التعاطي والاداء ..
الاطار الفكري هنا قوامه رفض التبعية، الاستقلال بالقرار والمقدرات ،العدالة الاجتماعية في توزيع ثروات الوطن علي ابنائه حتي لو رأي البعض في ذلك اهدار للموارد ، وهو هنا يشكل "رأسمالية دولة " علي الطريقة المصرية الخالصة ، ويتسامح مع عوار اجتماعي تسببت فيه قرون الاحتلال الطويلة ، املا ان يساهم التعليم والتوظيف في الارتقاء الطبقي والمجتمعي ، ويصحح اخطائه بنفسه ، وهذا لم يحدث علي ارض الواقع بسبب ابتسار التجربة والانقلاب عليها قبل ان تكمل عامها العشرين علي الارض ..
وفي بحثه عن نواة ايدولوجية صلبة لمشروعه التحرري ، اعتمد ناصر "القومية العربية " كونها هوية حديثة كانت وقتها قيد التشكل ، مما يمنحها زخما اضافيا ، فضلا عن كونها هوية ومكون ثقافي يجمع ــ او قادر علي جمع ــ مساحة جغرافية واسعة تضم مروحة من الاثنيات الحالمة بالتحرر من قبضة قوي استعمارية متشابهة ، وفي سعيه لترسيخ القومية العربية كمكون رئيس في مشروعه الفكري انفتح ناصر علي مشاريع اخري كانت تتشكل وقتها ، في اسيا وافريقيا السمراء واميركا اللاتينية ، ما يعني ان القومية العربية عنده لم تكن انغلاقية او شوفونية ، بل مجرد ملمح تمايز ، لوطن يبحث عن ذاته ، ولعلنا هنا نتذكر حفاوة ناصر بـ"عودة الروح " وصاحبها الكاتب توفيق الحكيم الذي كان احد العناوين الرئيسة في مرحلة بحث الهوية المصرية عن ذاتها ، وفرادتها متنقلا بين الفرعونية والاسلامية ..الخ
خفتت اضواء المشروع الناصري برحيل مؤسسه، وانقلبت "المؤسسة" علي ثوابت الرجل والمشروع ، لتعلي من قيم الخسة، تحت دعوي ايثار السلامة، والنهب المنظم للثروات تحت شعار الانفتاح ، والتمركز في اطراف المشروع الرأسمالي عوضا عن قلب المشروع التحرري المناويء،وبسرعة عملت ماكينات غسيل الادمغة علي تسفيه المشروع الناصري، وشيطنته، وتحميله كوارث التاريخ والجغرافيا ،بانتزاع نجاحاته واخفاقاته من سياقاتها ، واتهام الرجل ومشروعه بكل نقيصة،ولعبت السخرية دور المفرزة المتقدمة في الهجوم، وبات كل من ينادي بالتحرر والكرامة "حنجوري"، وخشبي اللغة ، في زمن "السح الدح امبو"،
وبينما يتوحش "الاميركي" محاولا الانفراد بالتربع علي قمة العالم عقب الانهيار المدوي للامبراطورية السوفيتية من الداخل ، وترهل اوروبا العجوز، كان مشعل التحرر الوطني ينتقل حول العالم، وبينما يرسخ البعض في المنطقة اجمالا ومصر خصوصا لفكرة "الكاوبوي" ويروج للحلم الامريكي والادارة الاميركية التي تمتلك 99% من اوراق اللعبة في المنطقة ، كانت اميركا تتلقي الصفعة تلو الاخري ، من فيتنام الي كوبا وصولا لفنزويلا التي تعد "الحديقة الخلفية " للبيت الابيض
ولم ينكر مناضلو ارض"الواقعية السحرية" يوما الدور الذي لعبه ناصر في انارة طريق التحرر امام ناظرهم ،حتي ان زعيما ارق الامريكان طويلا هو الرئيس الفنزويلي الراحل شافيز قالها بشكل واضح في مقابلة تلفزيونية شهيرة " انا ناصري "
بدأت العلاقة بين المشروعين التحررين في المنطقة العربية وايركا اللاتينية مبكرا ، حين وجد مناضلو اميركا اللاتينية المسلحون في المشروع الناصري تأصيلا فكريا لنضالاتهم ،
المناضل الاممي الاشهر تشي جيفارا لم يكن الوحيد الذي زار القاهرة والتقي ناصر ، فهناك الزعيم التارخي الكوبي "فيدال" الذي نعي ناصر قائلا " إن وفاة عبد الناصر خسارة فادحة للعالم وللحركة الثورية العربية فى وقت تحاك من حولها مؤامرات الإمبريالية.. لقد مات ثورى فذ من قادة القرن العشرين"
بينما تأثر بناصر بعد رحيله "مطران الفقراء " رئيس بارجاوي السابق فرناندو أرميندو لوجو ميديث والذي علقت الصحافة الغربية علي وصوله للحكم قائلة "يمكن القول دون أدنى مبالغة إن حكماً اشتراكياً متطوراً ناصرى الهوى والأصول وعنوانه الأساسى العدالة الاجتماعية، قد بسط نفوذه على قارة أمريكا اللاتينية"
زعماء وقادة اخرون لم يخفوا "هواهم الناصري " بينهم البوليفي موارليس والبرازيلي دي سيلفا
الغرض هنا ليس تعداد او رصد حجم التأثير الناصرية التي يراها البعض هنا مجرد "صورة اخري من رأسمالية الدولة " او " اشتراكية الموظفين " في تجاهل مدعي لخصوصية التجربة ، بل الاهم هو اعادة النظر الي تلك الامتدادات من اجل استشراف مستقبل الناصرية التي تبدو الان وراهنا ، البديل المأمون للمستقبل بعد انهيار "الرهان الاميركي " تماما
ليس مطلوبا من "الناصرية الجديدة " ان تتخلي عن القومية العربية كمكون ، بل ان تتسع عبائتها لتصبح حركة تحرر اممي ، ينضوي تحت لوائها كل مناضل ضد الهيمنة ، مؤمن بحتمية المواجهة مع الاستعمار والكمبرادور، الوكلاء والمتمولون،العابرون للاوطان والجنسيات في خدمة رأس المال ، فلم تعد "العروبة " هي المحك ، او الخيط الرفيع بين معسكري التبعية والاستقلال،ولم يعد ممكنا انكار الخيانات المتتالية القادمة من معسكر ""الاعراب " والتي اتخذت في وقت ما ذريعة للانتقاص من فكرة العروبة ، وحاول المعادون للمشروع استخدامها للادعاء بوجود خلل اساسي في المشروع الناصري
ان دعوة جديدة ينبغي ان تطرح للنقاش، وان تصاغ بهدف اعادة احياء مشروع الاستقلال الوطني، ورفض التبعية ومقاومة الهيمنة ، واعادة توزيع الثروات ، ينبغي الاعلان عن "ناصرية جديدة" جوهرها ثابت وافقها اكثر اتساعا ، تنصهر فيه دوائر ناصر الثلاثة الشهيرة في دائرة كبري هي "المقاومة" دونما ان تفقد هذه الدوائر قوامها الفكري ..
"الناصرية الجديدة" لن يكون "العرب" فيها كتلة تتماس مع الكتل التحررية الاخري، وتتحالف معها في مواحهة القوي الاستعمارية بل سيكون "المقاومون العرب" هم الكتلة الفاعلة في مواجهة "الانهزاميون" والكومبرادور والمتمولون، واذناب المشروع الاميركي من العرب ،قبل غيرهم
الناصرية الجديدة ستتخطي حواجز اللغة والديانة واللون والعرق ، لتحلق في سماء الفكرة المجردة دون التخلي عن اي من ثوابتها ، السياسية والاقتصادية والمجتمعية وبالتالي ستتمدد في جغرافيا جديدة لا كجليف بل كمشروع انسانس تحرري يجمع ــكما سبق وجمع بالفعل ــ اعراق والسنة شتي،