• أعتقدُ أن الناسَ لم تفهم ما كنتُ أفعلهُ في مركز تدريبِ الفرق الموسيقيه ذاك ، لم أكن هناكَ لتدريبِ و تعديلِ سلوكِ كلِّ من يأتيني و يُلَوِّحُ عِصيَّ الطبولِ أو جهازِ الساكسفون أو البوقِ بيدَيْهِ مثلَ الأحمق ، و يقومُ بإسْحارِ آذانِ الناسِ عديمي الذوق الموسيقي ببعضٍ منَ النوتاتِ الهزيلة و بعزفهِ كالهواة ، ليأخُذَ و ينعمَ ببعضٍ من ضجيجِ الشهرةِ الَّتي لم يكن يستحقُ أن يشتمَّ رائحتُها من الأساس ، كلُّ هذا لأنَّ مُتدربٌ لا يفقهُ شيئاً عن الموسيقى أثناءَ تدريبهِ بعدَ عزفِ مقطوعةٍ تاريخيةٍ مذهله بطريقةٍ رثَّه يخبرهُ مدربه الساذج ... ، "أحسنت" ...، و يشجعه ! ، هل تمزحُ معي ..."أحسنت" ؟؟؟!!! ، تلكَ الكلمةُ بالنسبةِ لي أسوءُ من إمساكِ بزوجتي تقومُ بخيانتي في الفراش ، كأنَّكَ تُخبرهُ أنَّ أدائكَ الحقيرَ هذا أعجبني ، إستمر ، و بعدها ... boom ، موهبةٌ قد ماتت ، "موهبةٌ" كانَ من الإمكانِ أن تتحسن ، أن تصبحَ شيئاً ، لكنهُ تم تسهيلُ الطريقُ و الأمورِ لها و تشجيعُها عوضاً عن سَقلِها و تعنيفِها و تشْكيلِها ، لِتَغْتَرَّ بنفسِها ، لتُصبحَ ثابتةٌ مكانُها بلا حراك ، دونَ إحرازِ أيِّ تقدمٍ مهما حَاوَلَتْ ، ولن تصلَ لشيءٍ في حياتِها ، لم أكُُن طوالَ تلكَ السنواتِ هُناكَ أُزاولُ هذهِ المهنه لأقُومَ بتدريبِ كلُّ من يأتي و حسب ، بل كنتُ هُناكَ لأقومَ بدفعِ الناسِ لِما وراءِ ما يتوقعونهُ عن أنفسِهم ، لأجعلهُم يتفاجئونَ من أنفسهم ، و كُنتُ أؤمِنُ أن هذا ... كانَ ضروري ، أجل كنتُ عنيفاً و عديمَ الرحمه و لا أُجاملُ و أُحَمِّلُ الجميعَ ضغوطاتٍ جسديه و نفسيه ، لكنِّي أفعلُ هذا لأني لا أريدُهم أن يُصبِحوا مُجرَّدَ عازفينَ مشهورينَ فحسب ، بل أُريدهم أن يُصبحوا التَّغييرَ الجذري الجديد في هذا العالم ، الإبداعُ كان و مازال و سيبقى وليدُ الألمِ و الإحباطِ المستمر من كلِّ من حولك حتى أهلُك ، و ليسَ التشجيعُ و الحِنِّيه و لا تقلق الجميعُ سوف يقفُ بجانبك ، هذا كلهُ هراء ، عِوضاً عن هذا ، بهذهِ الطريقه المُدلَّلة نحنُ نقومُ بحرمانِ العالمَ من "نيل أرمسترونج" القادم أو "آل باتشينو" القادم ، أو "تشارلي باركر" القادم ... ، هل أخبرتُكَ قصةَ كيفَ أصبحَ تشارلي باركر ... تشارلي باركر الَّذي يعرفهُ كلَّ عازفٌ موسيقي على وجهِ الأرض ؟! ... ،
● ( مجهول :- سَمعتُ أن مُدرِّبَهُ قامَ بإلقاءِ حاملِ الكتاب الموسيقي على رأسه ؟! )
• بالظبط ، باركر كانَ شاباً صغيراً مثلَ أي شاب ، عازفٌ عاديٌ على أداةِ الساكسفون ، جاءَ دورهُ في مرةٍ ليعزفَ مقطوعةً موسيقيه في جلسةِ تدريبٍ في تجاربِ الأداء ، و أخفَقَ تماماً و قامَ بتشويهِ المقطوعةِ الِّتي كانَ يعزفُها ، و كادَ جونز مدرِّبُ و مشرفُ المسرح أن يقتلِعَ رأسهُ بالحامل الَّذي ألقاهُ عليه ، و ضحِكَ عليهِ جميعُ من على و المسرحِ و خارجُها و أسفلُها و من في الكواليس ، ذهبَ إلى منزله ، قامَ بالبكاءِ حتى النَّوم ، و أصبحت أملاحُ دموعِهِ ممزوجةً بقُطنِ وسادته من الداخل ، و في صباحِ اليومِ التالي ماذا فعل ؟! ... قامَ بالتدرُّب ، و التدرُّب ، و التدرُّب ، مع هدفٍ واحد فقط في عقله ، ألاَّ يتِمَّ الضحِكُ عليهِ مُجدداً ، و بعد سنة ، عادَ إلى المسرَحِ مرةً أخرى في رينو في نيفادا ، و صَعِدَ فوقه ، و قامَ بعزفِ أفضلِ مقطوعةِ ساكسفونٍ لعينةٍ قد سمِعتها البشرية ، تخيل معي لو قالَ لهُ جونز ، [ "أحسنت" ، كانَ هذا جيداً يا تشارلي ... لا بأسَ بذلك يابُني ] ، عِندها سيقولُ تشارلي لنفسه ، [ حسناً لقد قُمتُ بعملٍ رائع ، مُستوايا هذا قد أعجبهُم ، عملٌ رائع يا تشارلي ] ، نهايةُ القصة ، تشارلي باركر أسطورةُ الجاز ، الملقَّب بالطائر ، لم يكن ليُصبحَ موجوداً بدونِ الألم ، و هذا بالنسبةِ إلي ... كانَ ليكونَ مأسآة ، أتعلم ، ليس هناكَ كلمةٌ في اللغةِ العربية أسوءُ من كلمةِ "أحسنت" ، لكن هذا ما يريدهُ العالمُ الأن ، أن يصِلوا و يحصُلوا و يُصبِحوا ما يريدونَ بدونِ معاناةٍ و دمارٍ نفسيٍ و إنكسارٍ مستمر ، و يتسائلُ الجميعُ لما موسيقى الجاز تموت...
Written by : Abdalla Algarabawy