في برنامج تلفزيوني مع أحد شيوخ الدين وكان موضوع الحلقة عن الجن وطبيعتهم وأصنافهم، سأله مقدم البرنامج : (هل من لا يؤمن بالجن يكفر يا مولانا!؟) ، فأجاب الشيخ أن (الإيمان بالجن ليس من أركان الإيمان ولكن يجب علينا الإيمان بالجن والشياطين لأنهم ورد ذكرهم في القرآن، وأما من لا يؤمن بهم متأولًا فلا يكفر)..... هذا ما ذكره الشيخ، وأنا هنا لن أركز على مسألة الجن وطبيعتهم بل أستوقفتني عبارة (يجب علينا الإيمان بالجن!!)، فهذه عبارة كنت دائمًا أمجها ولا أحبها ذلك لأن الصحيح هو القول (الإيمان بوجود الجن) وليس (الإيمان بالجن!!) فلا يصح أن تقول (أنا أؤمن بإبليس!!) بل تقول (أنا أؤمن بوجود ابليس)، أذ معنى قولك أنا أؤمن بالشيء الفلاني - حسب مصطلحات القرآن الكريم - مفاده أنك تثق بهذا الشيء وربما بشكل مطلق!، فعبارة الإيمان لا تتضمن مجرد (التصديق) والا لقلنا أن ابليس مؤمن بالله فهو يعرف ويصدق بوجود الله ويعلم أنه لا اله غيره، أما الإيمان بالمفهوم القرآني فهو لا يتضمن فقط معنى التصديق بل يتضمن أيضًا معنى (الثقة)!، الوثوق بالشيء او الشخص أو الكائن او العقيدة والنظرية التي تؤمن بها!، الوثوق به والاطمئنان اليه، هذا هو جوهر الإيمان!، أنا أؤمن بالله أي أثق في الله واطمئن اليه، أنا أؤمن بالنبي اي أثق فيه وأطمئن اليه، ولأن الثقة على درجات وتزيد وتنقص وتقوى وتضعف، لهذا - تبعًا لها - يزيد الإيمان وينقص بحسب الظروف والأحوال!، لاحظ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ}[النساء: 136] فهم مؤمنون من حيث المبدأ والتصديق لكن المطلوب زيادة الإيمان بالله ورسوله أي زيادة (الثقة) والوثوق بالله ورسوله، فالثقة كشعور وجداني قلبي قابلة للزيادة والنقصان، وحينما تزداد فتبلغ حدها الأعلى وهو (الثقة التامة الجازمة والمطلقة) بالله ورسوله واليوم الآخر يكون الإيمان قد بلغ أعلى درجاته وهو (اليقين)!!.
الشاهد أنني فهمتُ من مصطلح الإيمان في القرآن الكريم أنه لا يعني مجرد التصديق القلبي او التسليم العقلي بصحة الاسلام وحسب، {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}[الحجرات:14] فالتسليم العقلي بصحة الاسلام وصدق النبي يكفي مع الشهادتين للدخول في دائرة الاسلام أما دائرة الإيمان والمؤمنين حقًا فتحتاج إلى ما هو أكثر وأعمق من التسليم العقلي والفعلي، فالإيمان جوهره الثقة مع التصديق، الوثوق بالله وبالرسول وبالاسلام كمنهاج حياة!، لهذا لا أستصيغ أن يقول المرء : (أنا أؤمن بالجن وبالشياطين!) وهو يقصد أنه يؤمن بوجودهم ككائنات غيبية خفية (**) والصحيح أن يقول: (أنا أؤمن بوجود الجن والشياطين!) ، لا أن يقول: (أنا أؤمن بالجن والشياطين!!!) فالإيمان يتضمن في جوهره معنى الثقة والوثوق والاطمئنان، فكأنما يقول: (أنا أثق بالجن والشياطين وأطمئن اليهم!) والعياذ بالله!!، ومما يؤكد هذا المفهوم الذي استخلصته من القرآن الكريم هو أن عبارة (الإيمان بالجن) جاءت في احدى آيات القرآن في معرض الذم والانكار، قال تعالى: {ويوم يحشرهم جميعًا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ¤ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} (سبأ: 40-41) ، فالملائكة هنا تتبرأ من المشركين والوثنيين وتتهمهم بأنهم يعبدون الجن لأن أكثرهم بهؤلاء الجن مؤمنون!!، وقطعًا ليس المقصود هنا بأنهم يؤمنون بوجود الجن، فكل مسلم يؤمن بوجود الجن ولكن وصف المشركين بأنهم يؤمنون بالجن أي بأنهم يصدقونهم ويثقون فيهم!، لهذا هناك فارق كبير بين من يؤمن بوجود الجن وبين من يؤمن بالجن!!، والله أعلم!.
سليم الرقعي
(*) من اسماء الله (المؤمن) لأنه يصدق عباده المؤمنين ويثق فيهم (يؤمن للمؤمنين).
(**) شياطين الجن كائنات خفية أما شياطين الأنس فهم كائنات جلية من بني جلدتنا!.