جرفنى قدرى الى هناك ، الى العريش ، بعدما سرقتنى ايامى بعد التقاعد و قد هرمت و امتلأ الشعر شيبا و انحنى الظهر واحسست بحنين الى ايام الشباب و رفقة الصحاب ،علنى اتذكر شهداء ورفاق الكفاح واستنشق هواءهم فى ارض افترشناها و عمرناها و حميناها و رويناها بعرقنا و دمائنا وكانت غطائنا و الصدر الحنون لهمومنا و متاعبنا و لكنى شممت رائحة الدم ، رائحة الحرائق ،رائحة الغدر و الخيانة .

ترجلت بموقف الاتوبيسات لاخطو الى المدينة منتظرا خلو الطريق من السيارات فاذا بيد تاخذ بيدى تعبر بى الطريق و تبعدنى عن الدم و الخراب و الحريق ، شاب دون الثلاثين  و يبتسم ابتسامة ملائكية و سمعته يهمس لى قائلا انت فى امان الان يا سيدى ، فادرت راسى اشكره فاذا به يجرى بعيدا عنى ملوحا باشارة الانتصار متلاشيا بين الجموع فمن هذا ؟متى جاء ؟و متى غادر ؟

اعتدت لايام النزول الى موقف الاتوبيسات و الشوارع الرئيسية التى طالما كنت ارتادها وزملاء الكفاح فى الراحات و عند الاجازات منتظرين الاتوبيس بلهفة و شوق ليقلنا الى مجافظاتنا و لكن بحذر و خوف من الغدر و الارهاب.

و كنت المح الشاب على عادته، ابتسامته لا تغادر وجهه ، نشيط  فعال يجرى هنا و هناك يغيث الملهوف و يمرض المجروح و يبتسم و يلوح لى ، فاقتربت منه علنى اعرف سر ابتسامته فاقتربت اكثر فاكثر  فرأيت لمحة حزن تكسوها الابتسامة ، اقتربت اكثر فاكتشفت دمعة تتساقط من عينيه ، اه يا بنى من انت ؟

و يوما بعد يوم ارتبطت باتسامته و هدوئه و رباطة جأشه حتى جاء يوم اقبل نحوى يتهادى ثابت الخطوة معربا عن سعادته بلقائى فاردا ذراعيه ليحتضنى فاحسست انى اعرفه من سنوات ابنى البكرى مشيرا بانه راحة من الخدمة لساعات يتمنى ان يقضيها معى ، كنت انظر له و هو يتحدث بطلاقة عن اسرته الصغيرة و حبه لوالده الذى فى مثل سنى ، و كنت اتوق سؤاله من انت يا ابنى ؟ و انعقد لسانى امام فرحته و حبه للقائى.

سمعته بصوت الشباب و الحيوية ، شاهدت ضحكته و سمعت انينه و لمحت  بريق حبه و عشقه لبلده و اهله ، احسست احترامه للواجب و حنينه لاسرته ،تسامرنا و ضحكنا و لم يسالنى و لم اساله ، فلا معنى للاسماء و العنوان بعد السمو و تلاقى الارواح .

عزمت اليوم المغادرة و دقات قلبى تتسارغ كلما تذكرت هذا الشاب ، كيف اسرنى باخلاقه و شهامته و اخلاصه و حبه فقررت الذهاب الى وحدته لاودعه ، و لكن كبف ؟ و لا اعرف اسمه او كنيته ، و اخذتنى فدماى الى اول مكان التقيته فيه علنى استنشق نفس الهواء الذى استنشقاه معا.

ياالله من هذا ؟ انه هو ، يتهادى مبتسما ناحيتى و كاننا على موعد لقاء و على غير العادة تغيرت ملامحه و هو فى الطريق الى واسرع نحوى مسرعا يحتضنى ، يحتوينى بين ذراعيه و يرتمى بى ارضا ، ماذا يابنى ؟ ما بك ؟ ما هذا ؟ اه لقد استقبل الرصاصة بدلا منى ااااااه ااااه يا بنى ، لقد افتدانى بنفسه اه با بنى من انت؟

اه يا ابنى ، اه يا شبابى و شيخوختى ، اه يا شمسى و ضلتى ، لماذا انت و لماذا انا ؟ لماذا تلاقينا ؟ لماذا الربيع و الخريف ؟ الا لعنة الله على الارهاب و الخونة و الغدارين ، انهض يا بنى ، انهض يا صديقى لا تتركنى ، و ضممته الى صدرى و دمه الطاهر ينزف على صدرى من طلقة الخسة و الغدر ، و اخذتنى هستيريا الهلع و الانتقام فاخذت ادعوا على القتلى الجبناء و انا امسح الدماء عن وجهه فاذا به يبتسم قائلا لا يا سيدى ، لا يا سيدى ، لا تدعو عليهم ربما يكونوا مصريين لكن فى غفلة ، ادعو لهم سيدى ليفيقوا من غفلتهم .

افترشت الارض بجانبه و انا اضمه فى انتظارعربة الاسعاف و قلبى ينفطر على اطهر من قابلت ، انظر الى وجهه و ادقق فى ملامحه ، اختلطت دقات قلوبنا و دموعنا ، ضممته و انا ارتعش من خفقان قلبه انه يضيع منى ، لا با بنى لا يا صدبقى الصغير ، فاومأ الى لاقترب منه ، فدنوت من فاه ماذا يا صديقى انى اسمعك ، اخبر امى انى احبها و احب مصر و كل المصريين فهل انتى راضية عنى.

يا الله ، ذهبت للعريش اتذكر شهداء و رفاق الكفاح واستنشق هواءهم ، ذهبت لاتذكر فوجدتنى امام غدر و خيانة و قتل ، وجدتنى تتخضب يداى بدماء شباب طاهرة جددت الالام و زادت الاحزان .  

               بلدى وان جارت علي عزيزة                    واهلى وان ضنوا علي كرام