إن الغرب الذي يحكم العالم ويتحكم به ليس كتلة سياسية واحدة، رغم أن دوله جميعًا تعتنق النظام الرأسمالي، ورغم أن لديه طرازًا خاصًا متجانسًا (لحد ما) يستند إلى ذات المنظومة الفكرية، التي تفصل الدين عن الحياة وتجعل تحقيق المنفعة المادية طريق السعادة وغاية الغايات، مُشكّلةً بذلك القاعدة الفكرية لأي نهج أو فكر أو سياسة معتمدة من قبل دولهم ومجتمعاتهم وأفرادهم، ما يشعل التنافس والصراع والحروب بينهم جميعًا، أفرادًا وشعوبًا ودولًا وأممًا. وقد أدى هذا إلى إغراق العالم في صراعات وحروب كثيرة، كانت الحربان العالميتان المدمرتان أبرزهما. إلا أن تلك الحروب، رغم فظاعتها، فإنها تبقى «محتملة» لطبيعة الأسلحة التقليدية المستعملة فيها، أما في ظل الأسلحة الحديثة، فإن أية مواجهة مباشرة بين القوى الكبرى بات فوق قدرة أي منها على احتمال تداعياتها، لأنها تعني حروب إبادة شاملة بسبب الأسلحة التدميرية الهائلة المتوفرة لدى كل منها؛ لذلك اتخذ الصراع بين هذه الدول أشكالًا جديدة، تحُولُ دون الاصطدام المباشر؛ من هنا وجدت الحرب الباردة، والحرب بالوكالة، وتغيير النفوذ عبر الانقلابات والثورات، التي تظهر (في غالبها) محلية وذاتية، فيما تعكس في واقع الحال صراع نفوذ وهيمنة بين القوى الكبرى. والأمثلة على ذلك كثيرة، فالصراع الذي دار في فيتنام كان في حقيقته صراعًا بين القوى الدولية الكبرى، وإن كانت أدواته فيتنام الشمالية وفيتنام الجنوبية. كذلك فإنَّ الصراع الذي دار في أفغانستان ضد الحكومة الشيوعية في أواخر العهد السوفياتي، كان في حقيقته صراعًا بين الولايات المتحدة زعيمة حلف الأطلسي من جهة والاتحاد السوفياتي زعيمة حلف وارسو حينها من جهة أخرى، ولا يغير في تلك الحقيقة أن المقاتلين على الجبهات كانوا إسلاميي الهوية والخطاب. فقد كانت المخابرات المركزية الأميركية ترعى هذه الحرب وتدير عمليات التسليح والتمويل والإعلام مباشرة أو عبر وسطاء وعملاء؛ ما أدى بالمحصلة إلى انسحاب الروس من أفغانستان وسقوط الاتحاد السوفياتي لاحقًا.
ولا يقال إن الصراع والتنافس بين دول العالم قد انتهى، فهذا غير وارد أصلًا لطبيعة المبدأ البشع الذي يسيطر عليها، وتظهر هذه الحالة بأشكال مختلفة، على نحو أزمات اقتصادية، أو توسع عسكري، أو دخول في أحلاف أمنية وسياسية واقتصادية، والأمثلة على ذلك كثيرة منها، أزمة الولايات المتحدة مع أوروبا والصين واليابان بما يتعلق بالتجارة الدولية، وكالقضايا الشائكة والمعقدة بين روسيا وأوروبا، وكالتوسع العسكري الملحوظ لأميركا وبريطانيا وروسيا وفرنسا في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي والشرق الأوسط وغيرها.
في هذا الإطار، تجد هذه الدول في «الحرب على الإرهاب» ذريعة مناسبة لتوسعها وتنافسها وتنفيذ أجنداتها، تستخدمها كستار تختفي وراءها، تؤمن لها بيئة آمنة تحول دون وصولها إلى حالة صدام مباشر؛ حيث تبادر كل منها إلى وضع مخططاتها ورسم سياساتها محليًا وإقليميًا ودوليًا، ثم تبدأ بتنفيذها، فتستفزُّ بعضها البعض حينًا، وتبتزُّ بعضها البعض أحيانًا، وتقودهم لعقد صفقات وشراكات خبيثة بغية تمرير سياساتهم القذرة، التي يدفع المسلمون والأبرياء أثمانًا باهظة لها، كل ذلك باسم الحرب على الإرهاب. هكذا فهمت الدول الكبرى وأتباعها وأشياعها اللعبة، وصاروا يمارسونها باحتراف، وصارت وسيلة رائجة وسهلة الاستخدام، في الوقت ذاته تمنع دون حدوث صدام مباشر فيما بين تلك الدول؛ لذلك ترى هذا الأخير (أي الإرهاب) منتشرًا في كل بقعة صغيرة أو كبيرة يدور فيها أو عليها أو حولها صراع نفوذ وهيمنة. والأمثلة على ذلك يصعب عدها أو حصرها، وتجدها أحيانًا محيرة ومتضاربة بشكل لافت، وما يحدث في سوريا أبرز مثال على ذلك، حيث احتلت أميركا ثلثها عمليًا بحجة الحرب على «تنظيم الدولة» المصنَّف إرهابيًا عالميًا، بعد أن تركه العالم برمته سنتين يسرح ويمرح كيفما يشتهي في سوريا والعراق، على مرأى ومسمع الجميع، كذلك فعلت روسيا لتدخلها في سوريا، وشملت مع تنظيم الدولة كثيرًا من التنظيمات الأخرى التي يتم دعهما وتمويلها من دول أخرى، فيما اجتاحت تركيا شمال سوريا وأقامت حزامًا أمنيًا واسعًا بذريعة القضاء على تنظيم العمال الكردستاني وملحقاته الإرهابية (التي تدعمها أميركا)، كذلك تجد القوات البريطانية والفرنسية منتشرة علنًا في عدة مناطق في سوريا بنفس الذريعة، فضلًا عن القواعد العسكرية التي باتت منتشرة لجميع هذه الدول في سوريا بنفس الحجة.
وهكذا، فحيثما أطلقت ناظريك تجد كرة اللهب الإرهابية تتدحرج أمام اللاعبين، يقذفها كل منهم بوجه الآخر، يقومون باستنساخها من خلال إيجاد مجموعات تبايع بعضها البعض لتأكيد صلة لا مبرر لها سوى منح الذرائع ذاتها، فتشن تلك المجموعات هجمات صادمة وموثقة بتقنية عالية، ثم تجد المـُخطِّطَ يرسل بقواته لمحاربته وفرض أجندته، فيحتل البلاد ويقيم القواعد العسكرية ويفرض قوانينه الخاصة. وبما أن العالم الإسلامي تحديدًا هو مركز التنبه والتنافس الدولي كونه مصدر الثروات الهائلة والطاقة الصناعية الضرورية، لذلك تجد ظاهرة «الإرهاب» منتشرة بحِرفية عالية فيه حيثما اقتضى الأمر، كما هو الحال في سيناء وليبيا وتونس والصحراء الغربية ومالي والصومال وكينيا وغيرها.
على طول هذا الخط، يجب ملاحظة أن نسخة الإرهاب المعتمدة تختلف من مكان لآخر لتتناسب مع حجم المـُخطَّط ونوعه، فإذا كان المطلوب إنشاء نظام عالمي جديد، فإن الإرهاب المفترض يجب أن يشكل طاقة كافية لإطلاق هذا المشروع، وينبغي أن يكون كافيًا لإجراء التغييرات المطلوبة في الموقف الدولي؛ لذلك شكَّلت أحداث 11 سبتمبر صدمة عالمية بحجم الغاية المقصود منها، وكان من تداعياتها احتلال بلدين ضخمين بحجم أفغانستان والعراق في إطار تشكيل نظام دولي جديد. وأما إذا كان المطلوب هو حماية الشبكة الأمنية المعقدة والمركبة من عدة دول باسم حلف الممانعة، وترسيخ الشقاق بين المسلمين (سنة وشيعة)، وإبادة مدن بأكملها، وتغيير التركيبة السكانية القائمة بما يتناسب مع أجندات غربية معينة، فإن المطلوب هو إقامة «خلافة الرعب» التي تضرب شمالًا ويمينًا، تسبي النساء وتبيعهم، وتحرق الأسرى بشكل سينمائي موثَّق يضاهي في إنتاجه وإخراجه صنَّاع الأفلام العالمية التي تنتجها هوليوود نفسها. كما تصل يد الإرهاب إلى عواصم الغرب، تضرب شمالًا ويمينًا في عمليات ينفذ أغلبها مشبوهون وملاحقون. فيما نجد في المحصلة أن هذا كله من مقتضيات المـُخطَّط، الذي يحتاج إلى تربة خصبة تعج بالشباب المتحمس الذي يمكن تفعيله وتوجيهه من وراء ستار، كضرورة لازمة لنجاح المخطط، ويقودنا هذا بطبيعة الحال إلى الغاية الثانية من «الحرب على الإرهاب».
فوزي عتيلي.
كاتب وناشط يساري فلسطيني.