غادر زبائن القهوة القليلون، وانتصف الليل ، كان صديقي أستاذ التاريخ يحدثني عن مساعي الوزارة لتغيير الكتب :

- نريد أن نقلع جذور العنف من المجتمع ،ونصنع أجيالاً تحب الحياة ...كانت الجمرة على رأس أركيلته قد خَبَتْ ، فنادى هيثم -نادلَ القهوة وصاحبَها- أن يسعفه بجمرة متقدة ، أقبل هيثم بنشاط لم يضعفه تقدم الليل ، وضع الجمرة اللاهبة في مكانها بأناة ، والتفت إلي وقال سآتيك بفنجان قهوة : قلت له قهوتك الثقيلة سوف تسبب لي أرقاً ...

ما لبث هيثم أن جاء بفنجان القهوة ، فلما قربه إلي ، تأملت في عينيه ،كانتا تشعان أملاً ، و شباباً ، كان في العشرين من عمره ، أسمر الوجه ، غض الملامح ،تركتُ حديث التاريخ ، وسألته : كيف هي الحياة معك ؟

قال : مستورة !والحمد لله..

قلت له :في هذه القهوة في هذه الحديقة على ناصية هذا الشارع ، يمكنك أن تشق طريقاً واسعا في الحياة ! شكرني وقال : في رأسي أفكار كثيرة وأنا عازم عليها حتى تزدهر القهوة !جلس معنا وقد خلا المكان إلا من ثلاثتنا، تابع بحماس ظاهر ،قال إنه سيغطي طاولاته بغطاء أبيض أنيق ، سيضع على كل طاولة باقة ورد ، سيشغل موسيقا هادئة تجذب الحب والطمأنينة ، أشرت عليه أن يتخلص من زوائد الأشياء في الحديقة، فقال إن لدى جيرانه قبواً خالياً سينقل كل مالا يلزم إليه ، ثم استدرك بأنه سوف يستعين بأخيه وصهره في خدمة زبائنه ، وقال إن موعد كل إصلاحاته تلك سيكون الربيع القادم !

جاء الربيع التالي لاهبا كصيف !، عاصفا كخريف! ، لم يمهل براعمه أن تتفتح ، ولا عصافيره أن تغرد،ولا موسيقا هيثم الهادئة أن تصدح ...غاب هيثم مع الغائبين فجأة ، لم يعرف أحد عنه شيئاً ، ذبلت زهور الحديقة حول قهوته ، لوت أغصان الأشجار فيها أعناقها ،خلت ناصية الشارع إلا من العابرين على عجل !

أشرف الربيع على نهايته وعلى نحو غير متوقع ، تجمعت سحب رقيقة مع نسيم الصباح، ورشت السماءُ رذاذاً لطيفاً أنعش زهور الحديقة ، وعاد هيثم كما غاب فجأة ، حدّثَ زبائنه القليلين جداً عن غيابه ، وخوفه ، وغدر الأيام !

اشتدت حرارة الصيف ، تبخرت آماله الباقية ،أصبحت قهوته ترفاً لا يغري أحداً ..

أصبح حبيس البيت والهواجس ، يحسب كلَّ صيحة عليه ، وكلَّ حافلة تمر أمام بيته كأنما جاءت لتأخذه!

وقفت حافلة ، سكنت الحارةُ كأنها مقبرة ، نزل منها مسلحون ، جاسوا خلال الديار ، جمعوا حصادهم المر، سُمِعت رصاصات متفرقة ، اختلطت مع أوامر غاضبة واستغاثات، ساد صمت رهيب ، تحركت الحافلة ، نفثت دخانا كثيفا ثم اختفت ...

هبط الليل ثقيلا بطيئا ، وُجِد هيثم في قبو جيرانه غارقا بدمه ، وقريبا منه تمدد أخوه وصهره ...

تابع صديقي إلقاء دروسه المعدلة أستاذاً للتاريخ وشاهداً عليه !

في القهوة وجدت أغطيةٌ بيضاء أنيقة ،و مزهريات صغيرة، وأشرطة موسيقا هادئة مُودَعة في زاوية .

أما أنا فتركَتِ القصةُ في نفسي جمرة لاهبة لا أعرف أين أضعها ..