صديقي شاعري مرهف الحس، دقيق النظر في جزئيات الأمور، يضع عيني دائمًا على أشياء اراها ولكن لا ألحظها، قال لي مرة وأنا بجتمع من الناس والخلق: ترى تلك؟
- قلت: تعني العجوز الهندية!
- قال: نعم، كم تُقدَر أنها بلغت من العمر؟
- قلت: هي في الخمسين لا تنقص عن ذلك.
- قال: لا، لو دققت النظر، وجدتها فوق العشرين وربما أصغر من ذلك.
- قلت: كيف يكون هذا، ومن يراها لا يقول بغير ما قُلت.
- قال: هذه لأنها عاشت الخمسين سنة في عشرين سنة، بدت ملامحها كذلك، فلأن الهم مستولٍ عليها، ولأنها تعيش حياة فقر ومسغبة، وتكد وتعمل، وتعاني من الأعمال الشاقة ما لا تعانية المرأة عندنا، أنت تراها كذلك!
- قلت: عجيب أويكون ذلك؟!، يأتي الفقر والهم على ملامح الإنسان وجسمه، فيحيله إلى بقايا شيخ فان، قد طواه الهرم، وأنزفه الجهد والتعب، هل يفعل الهم والفقر كل هذا؟
- قال: ونعم، ألم تر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعاذ من الفقر، واستعاذ كذلك من الهم والحزن، وهو صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ إلا من أمر مخوف!. واعتبر هذا بفتى قريب لنا، عانى من الهم شدة، وعالج من الفقر الجهد، وقد رأيته بعد سنتين لا يطيق الوقوف على قدميه، وهو مع ذلك يجد ما يأكل وما يشرب، لكن لأن الهم أنهك عقله وبدد تفكيره، صار لا يرغب بمأكول ولا مشروب، حتى نحل وأشفقنا عليه الهلاك، ولم يكن ما أشفقنا عليه منه له بد، فقد مات يرحمه الله بعد ذلك بقليل!
- قلت: هذا مات همًا ولم يمت جوعًا، بل لديه ما يأكل ويشرب، عنده قوت يومه، لا أراه مات إلا حزنًا على ما فاته من أمر الدنيا، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، فهو قد عظم عند نفسه أمر الدنيا حتى أفنى نفسه كمدًا عليها.
- قال: أحسنت، تعلم:
والليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب
ثم ... قام وانصرف