بتلويحة من الصديق المغرد مدلول الشمري، قرأت مقالة للأخ خالد الخويطر بعنوان: "هل وصل العرب إلى أستراليا قبل الأوروبيين؟" والمنشور في مجلة الجزيرة الثقافية يومَ السبت 26 مايو 2018. فرحت بالعنوان لأنه يخص أرضا قضيت فيها أياما جميلة من حياتي وربما ستزداد، لكن المقالة لم تلبث طويلا حتى بدت لي حاملة بعض المغالطات، والتي أرغب الردَّ عليها عبر حسابي في تويتر وصفحتي على منصة أكتب.
بدأ الكاتب الكريم مقالته ناقلا كلاما عن الجاحظ وهو يصف حيوانا تنطبق عليه صفاتُ حيوان الكغنر الأسترالي من وجهة نظر الكاتب؛ وقد نسب الكاتب للجاحظ عدم المنطقية حين خلط كلامه بين هذا الحيوان (الحمار الهندي) وبين حيوان (الكركدن) معلّلا بعدم رؤية الجاحظ للحمار الهندي. كان كلام الجاحظ هذا نقلا عن مصادر (هكذا ذكرها الكاتب في مقالته)، وكان تحت باب (الحيوانات العجيبة) من كتابه: "الحيوان". عند العودة إلى باب الحيوانات العجيبة من كتاب الحيوان، والذي لا يتجاوز حجمه الصفحة الواحدة، وجدت أن الجاحظ يقول: "وليس عندي في الحمار الهندي شيء. وقد ذكره صاحب المنطق" (الحيوان، ج 6، ص 27)، ثم لم يذكر شيئا عنه تحت الباب المذكور. وصاحب المنطق الذي نقل عنه الجاحظ في 62 موضعا هو أرسطو كما ذكر عبدالرحمن بدوي في مقدمته على تحقيقه لكتاب "أجزاء الحيوان" لأرسطو. هنا أريد توضيح أن المصادر التي كان الجاحظ قد عاد إليها معلومة غير منكرة كما قد يفهم ذلك من كلام الكاتب.
ثم ذكر الجاحظ في باب "الكركدن" أن صاحب المنطق [أي أرسطو] قد ذكره وأسماه الحمار الهندي وذكر صفاته ومنها قرنه الذي وسط جبهته (الحيوان، ج 7، ص 123). من هنا ندرك أن الذي أسمى الكركدن (وهو وحيد القرن) بالحمار الهندي هو أرسطو وليس الجاحظ، وبهذا ندرك عدم الحاجة إلى معرفة ما معنى الهند عند العرب وهل سيتعدى ذلك إلى أستراليا وهي الفرضية التي ساقها الكاتب. كما أننا ندرك أن الخلط واللا منطقية المذكورة في المقالة بحق الجاحظ غير واردة أبدا عند من يقرأ المواضع التي ورد فيها ذكر الكركدن والحمار الهندي، خاصة مع ذكر القرن في وسط الجبهة ومقارنته الدائمة بالفيل في حجمه. وقد عدت كذلك لكتاب أرسطو بالإنجليزية، ووجدت الحيوان نفسه مذكورا باسمه الذي أورده الجاحظ: الحمار الهندي (Indian ass)، بل وبالحمار الوحشي (wild ass) في مصادر أخرى أقدم من أرسطو نفسه، كما عند الطبيب والمؤرخ اليوناني كتسياس (القرن الخامس قبل الميلاد). وقد ذكر من وصف أرجله وقرنه ما لا يسمح مطلقا بخلطه مع الكنغر، والحقيقة أن الخلط متعذر لأن المنطقة الجغرافية هي أقليم الهند المعروف حاليا. كما أن هناك كتبا عربية أخرى متأخرة عن الجاحظ بقرون كانت قد ذكرت الحيوان بالاسم نفسه (الحمار الهندي) على أنه الكركدن، كما فعل النويري في موسوعته الكبيرة "نهاية الأرب في فنون الأدب".
كان الكاتب قد تجاهل من خلقة الحمار الهنديعند الجاحظ ذِكْرَ القرن، وركز على ذكر صفة حمل وولادة أنثى الحمار الهندي كي تنتهي به المقالة إلى أنه هو الكنغر. ذكر الجاحظ ما نصه: "حتى إذا نضجت [...] وجرى وقت الولادة، فربما أخرج الولدُ رأسَه من ظبيتها فأكل من أطراف الشجر، حتى إذا شبع أدخل رأسه" (الحيوان، ج 7، ص 124). وعُللت هذه الحالة عند الجاحظ لطول فترة حمل أنثى الحمار الهندي: الكركدن. يتبين من هذا الوصف الظاهر أن خروج ولد الحمار الهندي يختلف عن ولادة صغير الكنغر مدةً وكيفية. ففي الوقت الذي يبلغ حمل الكركدن الهندي، الحمار الهندي، قرابة الست عشرة شهرا، فإن حمل أنثى الكنغر لا يتجاوز الأيام المعدودة (من 21 إلى 40 يوما)، وبينما يخرج ولد الحمار الوحشي رأسه فقط ليأكل ويعود كما جاءت الرواية، فإن صغير الكنغر يخرج كاملا بجسمه الضئيل جدا، والذي يتجاوز طوله 2 سنيتمير كما ذكرت المراجع والمصادر كلها، زاحفا إلى مقرة الثاني وهو جراب أمه والذي يتشبث فيه بثدي أمه جيدا، ولا ينفصل عنه ولا يخرج من الجراب أبدا لمدة قد تصل لدى بعض أنواع الكنغر إلى ثمانية أشهر.
إن النص الذي نقله الكاتب عن الجاحظ متصرفا هو: "خرج ابنها منها [...] ثم يعود إلى رحم أمه"، بينما كان قول الجاحظ نصا: "أخرج الولد رأسه من ظبيتها فأكل من أطراف الشجر، حتى إذا شبع أدخل رأسه". هنا يجد القارئ فرقا سببه عدم الدقة في النقل والتصرف، فإخراج الرأس وحده غير الخروج، كما أن "الظبية فرجُ المرأة وقال الأصمعي: هي لكل ذات حافر" كما جاء في صحاح اللغة وليست الرحم. والظبية وإن أطلقت على الجراب مما يستخدمه الناس من جلود الحيوانات، إلا إن نسبتها لأنثى تدل على أنها الفرج، وكان عبدالسلام هارون محقق نسخة كتاب الحيوان الذي اعتمده الكاتب وعزى إليه في مقالته قد عرّف الظبية في حاشيته بـ "الحياء من المرأة، وكل ذي حافر". والعجيب أن أغرب ما في الكنغر من الملاحظة الأولى يجب أن يكون طريقة وقوفه على رجلين وطريقة مشيه، ونقل ذلك -ربما- كان أولى قبل نقل أي صفة أخرى. كما أن أرسطو -مصدر الجاحظ- كان قد ذكر في كتابه أن الحمار الهندي من الحيوانات التي تمشي على أربع.
هنا أقول زاعما أن من قرأ المواضع الذي ذكر فيها الجاحظ الحمار الوحشي في كتابه الحيوان، لم يشك مطلقا في كونه يعني وحيد القرن الذي نعرفه اليوم (الكركدن)، خاصة مع ذكر الجاحظ لندرة حمله وقلة عدده منذ ذلك الزمان. بينما أعداد الكنغر كبيرة جدا، كما تستطيع أنثى الكنغر في الوقت نفسه أن ترضع ولدا لها كبيرا، وترعى ولدا آخر وترضعه في جرابها، وتكون كذلك حاملا بولد جديد؛ وهذا معروف عن هذا الحيوان الذي يمثل رمز أستراليا الأكبر في يومنا هذا. وعند نهاية هذه الفقرة أقول: إن رأس الكنغر لا يشبه رأس الحمار لا بالتأمل ولا بغيره كما ذكر الكاتب! إن الكنغر إما جربوع كبير أو غزال يقف على رجلين.
لا يستبعد أن يطلق العرب على أستراليا لو كانوا وصلوا إليها شيئا يتضمن "الهند"، كما إنني لا أنفي احتمالية وصول أي إنسان إلى أستراليا قبل من وصول الأوروبيين المعلوم والمدون. وقد استشهد الكاتب بتسمية إندونيسيا قائلا: "التي كان العرب يسمونها (جزائر الهند الشرقية)". وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة معرفة تاريخ دخول المسلمين/العرب إلى إندونيسيا، وكذلك يجب أن ندرك أن العرب كانوا يسمون كل الجزر التي نعرفها اليوم بإندونيسيا بـ(جاوه) وأن اسم (جزائر الهند الشرقية) هو اسم أطلقه الهولنديون وليس العرب على إندونيسيا، كما ذكره محمود شاكر في "التاريخ الإسلامي"، وهو مذكور كذلك في المراجع الغربية. والحقيقة أن ربط اسم إندونيسيا بالهند جهةً يتضح من البحث في أصل تأثيل (إتمولوجيا) كلمة إندونيسيا، والتي هي أوروبية بالضرورة: فـ (indo) تعني الهند في لغاتهم القديمة، و(nesos) تعني الجزر في اليوناينية القديمة.
وأخيرا أعود إلى العنوان المقالة، ذلك السؤال الذي افتتح الكاتب مقالتَه به: "هل وصل العرب إلى أستراليا قبل الأوروبيين؟" يرجح كثير من علماء الآثار والأنثروبولوجيا تواصل المسلمين مع السكان المحليين لشمال أستراليا قبل وصول الأوروبيين لها. بعضهم يؤرخ ذلك تقريبا إلى بداية القرن السادس عشر للميلاد، أي قبل قرن من وصول أول بعثة أوروبية معلومة إلى أستراليا. إن تواصل المسلمين مع سكان شمال أستراليا، منطقة أرهام تحديدا، كان عبر صيادي خيار البحر من مدينة ماكاسار الإندونيسية، ويرجح أنه كان ثمة تعايش وزيجات مختلطة بينهم كما ذكرت ذلك بعض المراجع. كما يذكر بعض العلماء وجود أثر واضح للإسلام في بعض أغاني الفلكلور وطقوس الجنائز لدى بعض المجموعات من السكان المحليين. لذلك لا يزال بعض سكان مناطق أستراليا الأصليين الذي يعودون لتلك الطوائف يقدرون ذكر المسلمين بسبب أن تعاملهم معهم كان مبنيا على المساواة، خلافا لما فعله بهم الأوروبيون عند وصولهم. ويعتقد بعض العلماء أن انقطاع هذا التواصل كان بسبب الوجود البريطاني وفرضه الضرائب على بعض الممارسات: الصيد والتجارة. هناك تحقيق لطيف على الـ بي بي سي عن وصول الإسلام إلى أستراليا، كما أن الأوراق العلمية المحكمة والمنشورة حول هذا في حقول عدة لا تنكر هذا التواصل بين الإندونيسيين والسكان المحليين قبل وصول البعثات الأوروبية.
في الختام أرى أن الأخ خالد الخويطر كاتب المقالة قد طرح سؤالا جيدا، لكنه طرق بابا عجيبا للاقتراب منه، وهو ليس بابا بعيدا بل مستحيلا!