ذات يوم بينما كنت عائداً من عملي إلى البيت ليلاً، لاح لي خيالٌ من بعيد لم أرى إلّا لباساً أسوداً فيه شيء يتحرّك، بطبيعةِ الحال كلّما اقتربتُ أكثر كان يكبر حتّى وصلت بمُوازاتِه تماماً وإذ بفتاةٍ تقطع الأخشاب وجنبها عربةُ فلّاحٍ صغيرة لحملهم عليها، كنت لا أستطيع تصديق ما رأيت ..!!

 دخلتُ البيت وأنا أفكّر في الموقف الذي حصل وعقلي وجسدي شاردان فانتبه أهل بيتي أنّي لست على ما يُرام فسألوني ما بك ؟ ما الذي يشغلك ؟ حتماً يوجد شيء خلف هذا الشّرود اليوم ما الجديد ؟ فأجبتهم لا شيء مُهمّاً لكن هناك عمل مكثّفٌ غداً لا تقلقوا لا شيء ؟

في اليوم التّالي رأيت الموقف ذاته أيضاً بتفاصيله ، بدأت نفسي تحدّثني لمَ يحصل هذا ؟ أيُعقل أنّ فتاةً تخرجُ لتقطيعِ الأخشاب وحملهِ إلى المنزل لأجل الدفء ففي هذا عناءٌ كبير، أليس لديها أبٌ يقوم بذلك أليس لديها أخٌ شاب يحمل هذا العبء عنها ؟؟ كانت نفسي تحدّثني بأفكارٍ كثيرة لكن بقِيَ السّؤال ( لماذا ) ولم أعرف الإجابة.

 مرّ شهرٌ كاملٌ وكلّ يوم أرى الموقف ذاته، عندها أصبح لدي فضولٌ كبير لمعرفةِ ما وراء الأمر ولكن كيف؟ أيُعقلُ أن أقترب وأحدّث فتاةً غريبةً في الشّارع لا لا يمكن كيف هذا وبأيّ صفةٍ سأفعل ذلك؟؟ مرّ أسبوعٌ آخر وأنا في غايةِ فضولي لحلّ الأمر، لأنّه حقيقةً بدأ يؤثّرُ سلباً على أهل بيتي وأدّى إلى تقصيري في العمل فقلت سأجد طريقةً لا محال لِأخرُجَ من هذا المأزق، أتى يوم آخر عندما خرجت من العمل محدّثاً نفسي كيف سأحدّث الفتاة ...

 كيف سأحلّ الّلغز ؟ لكن لم أتوقّع  أنّها ليست في المكان ومشيتُ حتّى وصلت حيث تكون كلّ يوم لكن الفتاة لم تكن في مكانِها ، عِلماً أنّ العربة والأخشاب لا زالوا في المكان ، يا إلهي.. بحثتُ عنها في الجوار لكن لم أجدها، ذهبت إلى البيت لم أستطِع النّوم أو الأكل وأنا أفكّر لا قدّر الله هل حصلَ مكروهٌ لتلك الفتاة حتّى بان ضوءُ النّهار من النّافذة.

 انطلقتُ مُسرِعاً إلى مكان الفتاة علِّي أجدها لكن لا يوجد أحد وكأنّي أبحث عن زيف، لاحظت بجوارِ المكان صوانُ عزاء لم أبالي بالأمر وتابعتُ البحث لكن لم أجد شيئاً حتّى الأخشاب والعربة فُقِدا، يا إلهي أين ذهبت ماذا حصل؟ وكان منتصف موسم الشّتاء فالأمطار غزيرة والبرد قارص ولا يوجد أحدٌ في الشّارع إلّا بعضُ القطط وكان المطرُ قد أغرقني وثيابي تبلّلت وتكادُ تعصِر من غزارتِه.

 فاتّجهتُ نحو العزاء علّي أُدارِك المطر قليلاً أو أنتظر حتّى يتوقّف فأعود إلى البيت، دخلتُ إلى صوانِ العزاء وجلستُ على كرسيٍّ أستريح فأتى إليّ رجلٌ عجوز حانيَ الظّهر وقدماه ترتجِفان والشّيب قد غطّى رأسهُ ولِحيته وقال : السّلام عليكم  من أنت هل لك صلةٌ بأهل هذا العزاء وما قالها إلّا وجلس من تعبه، قلت : أنا فلان ولا تربطني أيّ صلةٍ هنا لكن دخلت أستتٍر من المطر قليلاً، قلت : من المتوفّي ومن أنت يا عَم وهل هو من عائلتك ؟ فقال نعم أنا جدُّ المتوفّي وهو حفيدي أقصد حفيدتي ، قلت أعظم الله أجركم هل هي فتاة ؟ فكانت الصدمة ...!! جلس العجوزُ على الأرض واتّكأ على كرسيّ بجانبه وبدأ بالحديث فقال:

نعم هي فتاةٌ شابّة في العشرين من العمر تُوفّيَ أبوها في الحرب وأمّها كانت تعاني من مرض أدّى بها إلى شللٍ ثمّ ماتت عندما كانت صغيرة لم ترى حفيدتي الرّاحلة أمامها إلّا أنا فقمت بتربيتِها ورعايتها حتّى انتهى بِيَ الأمر أيضاً إلى مرضٍ أنهكني فلم أعد قادراً على العمل أو الحركة كما كنت، فقامت هذه الفتاة المُخلِصة برعايتي عندما توفّيت جدّتها قبل عامين بمرضٍ أيضاً.

 قلت كيف كانت تقوم برعايتك وهي فتاة لا تقوى على العمل ؟ من قال هذا ...! أنا من ربّى الفتاة، لقد كانت تقوم بقطعِ الأخشاب طوال اللّيل لتبيعه ونعيش منه وتجلب قسماً لأجل الدفء، يا إلهي كلُّ هذا تقوم به فتاة !! قال بل أكثر عندما قالت لي سأقطع الأخشاب ونعيش منه قلت كما تريدين المهمُّ أن نجد قوت يومنا لكن قومي بالعمل وسط النّهار، قالت لا سأعمل في اللّيل كي أستتر ولا يراني أحد.

 ولم تكتفي بذلك بل قرّرت أن تقطّعه خارج المنزل كي لا تُزعجني إن نمت، فتقطعهُ وتحملهُ على عربة وتأتي به جاهزاً، يا لإخلاصِ تلك الفتاة رحِمَها الله.

قلت يا عم : لكن لم تقلّي كيف تُوُفّيت حفيدتُك، غَصّ العجوز وجهش بالبكاء حتّى بلّلت الدموعُ لحيته وصارت تلمع كاللّؤلؤ كُلّما حرّك رأسه، قلت سامحني يا عَمّ لم أقصِد أن أعبث بجُرحِك فقال : لا تقلق ليس الألمُ بوفاة الفتاة فهذا قدرٌ مكتوبٌ لا هرب منه لكن سبب الوفاة مؤلمٌ جداً ولم يتوقّف عن البكاء وتابع حديثهُ واصفاً السّبب: مع مغيبِ شمس أمس أتت الفتاة وقالت يا جدّي أحضرت لك العشاء وسأذهب إلى العمل، قلت ستذهبين باكراً اليوم ليس كعادتك فقالت : سأبدأ بالعمل الآن لأنّ كميّة الأخشاب غداُ أكثر من كلّ يوم، قلت اجلسي شاركيني الطّعام فرفضت كي لا يفوتها الوقت فتتأخّر عن تجهيز الكميّة المطلوبة من الأخشاب، فذهبت لعملها وهي تقول لا تنساني من دُعائك جدّي بابتسامةٍ حاكت الطّفولة، بعد تناول الطّعام غلبَ عليّ النّعاس فنمتُ قبل أن تأتي.

وإذ بالباب يُطرقُ بقوّة منتصف اللّيل قمتُ مسرِعاً بلا شعور لأفتح الباب فكان أحد الجيران وجههُ ملوّن وغير طبيعيّ وكان يلهثُ تعباً كأنّه يركض، ما خطبك أيّها الجار؟ قال يا عمّ حفيدتك سقطت على الأرض أثناء العمل وكانت تصرخ ولا تلقى مجيب حتّى استيقظت على صُراخِها واتّجهت نحو مصدر الصّوت فوجدتّها ملقاةً على الأرض بلا حِراك.

 يا للمصيبة فذهبتُ مسرعاً أنا والجار لنرى ما الذي حصل فكانت صدمةً قاتلةً لي، أثناء عمل الفتاة انفصل رأس الفأس عن قبضتِه واصطدم برأسها فسقطت على الأرض تصرخ وهي تُنازع الموت، عندما أتى الجار على صراخها كانت قد فارقت الحياة وهي تشدّ حجابها كي لا يظهر شعرها، كانت الفتاة ضحيّةً في سبيل لقمة العيش وردّاً لمعروفي لها عندما كانت صغيرة.

عندها لم أستطع إلّا أن أشارك العمّ في البكاء وأسردُ له ما حصل لي كلّما رأيتها عائداً من عملي، أدركتُ حينها أن الوفاء لا يأتي إلّا من القلوب الصّافية والنّقيّة كقلبِ تلك الفتاة، وقد أثّر حالُ العجوز بي كثيراً عندما نظرتُ إليه وهو يلتفِت حوله ولا يجد أحداً، رحلت رفيقةُ دربه وابنتُه وحفيدته الّتي هي بمقام ابنتِه وأباها الذي قضى في إحدى الحروب، كم سيتحمّل بعد عمرٍ ناهز الثّمانين، فقرّرتُ أن أصبح خادماً له علّي أواسيه قليلاً من وحدتِه واعتبرتُه أباً لي.