كيف حالكم في غزة ؟؟

عندما سألني صديق بعيد هذا السؤال ،ظننت أن إجابتي ستكون حاضرة لكني كنت مخطئة ، فما أجبت وقتها إلا بكلمتين "الشكوى لغير الله مذلة" ثم صمتُّ ،لأن غصة وجع الوطن التصقت بحلقي حتى خنقت الحروف وأبتۡ أن تحررها .واليوم سأجيب لأنَّ الصمت يزدري من القوي ويهزء به حتى وإن لم يكن عنده ما يقال ،سأجيب لأنني سئمت من أن أردد الإجابات المعتادة التي عهدت أن أسمعها واقولها ،سأجيب رغم أن الكلام لن يفيد بشيء .

فعن ماذا تسألني يا صديق ؟!

أتسألني عن قلبِ المحن ..عن تلكَ الأم التي عانت وخاضت كل التجارب بقلبٍ صبور حتى ما عادت قادرة على الوقوف على جراحها صامتة ،عن تلك التي لم يبقَ أسى وحزن وقهر إلا وسكن قلوب أبناءِها ،تلك التي جُربت عليها كل أنواع المعاناة من حروب ومجاعات وجرائم وحصار

اتسألني عن الوجع الحارق في قلبِ أم الشهيد وابنته،عن القهر والألم الدامي في قلب زوجة الأسير وأبنائه

عن ماذا وماذا وماذا ،فما يحدث هنا ومنذ سنين طوال حتی هذه اللحظة ليست سوى جرائم إنسانية ،لا تُشكى لغير الله ولا تُبكی أمام غيره .فهنا ندفن شهداؤنا وجراحهم تسكننا ،نمضغ مُرّ اللوعة والفراق والحسرة على شبابنا الجريح بصمت ،نبتلع غصتنا ونمضي ،هنا البطالة والآلاف الآلاف من الشباب الخريجين في الشوارع دون عمل ولا دخل ،يزيلون فتات أحلامهم من على الطرقات حتى لا تنبت أحلام جديدة يخذلونها بقلة حيلتهم ،يلهثون دون هدر أي طاقة ،يلهثون ألما وحسرة لا يستطيعوا أمامها شيئاً ،

أتعلم ماذا أيضا هنا الكثير من رجال الأعمال في السجون بسبب الديون المتراكمة ،الذمم المالية ،قضايا مخدرات،سرقات وجرائم ،هنا مليوني وزيادۃ يعيشون تحت الأنقاض بصمت ذليل، في وقت أصبحت لقمة العيش أصعب من أن يحصل عليها ،هنا الحسرة على الوطن ،على ما يزيد عن 2 مليون يموتون على البطيء ولا حياة لمن تنادي.

هنا مدينة تجوع وتباد ،والرؤساء يتنازعون على من يرأسها ويحكمها ،على من يحمل ثقلها ،وكأن أي من الطرفين قادر على ذلك.

هنا 2 مليون ينتظرون شهر مايو على أحرّ من الخوف ليَروا ما يحمله لهم من مفاجآت وعقوبات ومآسي ،وأي نيران ستحمل معها الشهور الآتية لتستعر في هذه المدينة المنكوبة.

هنا يا صديق شعب خاض حروب كان هو الوقود والحجارة فيها ،جريح وراء جريح وشهيد يجر شهيد وما زال الشعب ينتفض ،ولم يعد شي يخفف من وجعه ،من الحرقة على مرضاه وجرحاه الذين يموتون تقسيطاً وهم ينتظرون التحويلات العلاجية ،يزداد الخراب والشباب على الحدود يسقطون واحداٌ تلو الآخر ولا يجرهم إلى المُر إلا الأَمرّ منه .

أتساءلت يا صديق وأنت تشاهد الشباب الثائر على الحدود ما الذي يجرهم إلى المجهول ،وهم يعلمون جيداً أنهم لن يتقدموا خطوة دون أن تقتنصهم البندقية اللعينة، أتساءلت ما الذي يجعلهم يرمون بأنفسهم للتهلكة دون تفكير بالعواقب !إنه الدمار والخراب الذي يعيشونه ،الفقر ومرارة العيش ،ووجع الوطن المسلوب ،شبابهم ومستقبلهم الضائع ،مطالبهم التي تُدحر في الأرشيف حتى دون أن يُطّلع عليها بحجج حفظت من كثرة التكرار ،ما بيدنا حيلة ،مفيش معابر ،مفيش أموال ،استنوا المصالحة ومفيش مفيش وبعدين اصبروا واحتسبوا بس لمتى ؟؟ الله أعلم

وهل بقي في قلوبهم صبر بعد كل ما عانوه وما زالوا .

هنا جيل كامل لم يتبق عنده لا أمل في الغد ولا في ما بعده ،جيل ما بقي يهمه سوى أن يمضي يومه .

هنا يا صديق أحلام موبوءة بواقع مرير ،ومآسي لا تنتهي ، وبالنهاية ومهما حدث ستجد الشعب الغزي صامد،يبني ويعمر ،يبكي حرقته دون أن يدع أحد يسمع أنينه، يمشي على جراحه ويكابر ليمضي لموته المستساغ بأعين مفتوحة وجباه لا تنحني لغير الله.

وما أعرفه جيداً أن الشعب وللأسف الشديد ستخبو ثورته ما دام هناك من يشتهي الخبز المحمص والقهوة المعتقة لتُهَدئه وتُعَدل مزاجه ،ما دام هناك من يلقن الناس ما يجب أن يُقال وأن يُفعل ،ستخبو كلما مَنّوا على الشعب المسكين المساعدات والكوبونات المالية الرخيصة فقط ليَسدوا رمقه ، ليستحسن طعم الحياة لبعض الوقت ،ثم يُجوعوه من جديد فتشتعل الثورة مرة أخرى ،تخبو وتشتعل وهكذا حالنا والله المستعان .