العداد

لن أكتب في هذه السطور عن عداد العمر الذي يسيرُ بك سريعًا متجاوزًا جميعَ مراحلِ حياتك، ذلك الذي لا تعرفه إلا بدقات قلب المرء القائلةِ له إن الحياةَ دقائقٌ وثوانٍ، ولا عن عداد الكهرباء الذي يشتكي منه القوامون على النساء مُرَّ الشكوى، ولا حتى عن عداد التاكسي الذي يستخدمه بعض سائقيه في استلال ما بجيب زبائنهم، بل سأكتب عن أداةٍ جديدةٍ قديمة، استُخْدِمَت في محو عقول صغار المكافيف، بقصدٍ أو بغير قصد.

لا أعرف من أين أتت فكرة هذه الأداة، ومن هذا العبقري الذي تحدى ذكاءه علم الخوارزمي حتى يلعب بعقول مدرسي التربية الخاصة ليستخدموها في تعليم المكافيف الحساب، لكنني أستطيع وصفها بدقة، وسأشرح لكم في السطور التالية كيف استطاع العداد إيجاد عقدة في الحساب عند أمثالي من المكافيف.

دعوني قبل ذلك أحاول وصف العداد، فهو جسمٌ بلاستيكي مربع الشكل، وُضِعَتْ عليه قطعةٌ من الجلد فوقها قطعةٌ من الإسفنج، ثم لُصِقَتْ فوقهُ أعمِدَةٌ معدنية يصعب كسرها، نُظِمَتْ فيها خَمْسُ خرزات، تنقسم إلى قسمين، أربع خرزات في أسفله كلما أزحتَ واحدةً منها إلى الأعلى أضافَ رقمًا جديدًا، ثم وُضِعَ حاجزٌ بلاستيكي مَرِن يحجز الأربع خرزات عن تلك الموجودة في أعلى العداد والتي إذا أزحتها إلى الأسفل أضافت قيمة العدد 5 إلى المسألة الحسابية، ثم وضعت أجسام بلستيكية مرنة أعلى العداد وأسفله مرسومٌ عليها بخط بارز علامات لشرح الكسور الحسابية والبسط والمقام إلخ، أرجو أن تكون الفكرة قد وصلت.

المشكلة يا سادة ليست في العداد نفسه، فقد يكونُ هدفُ مصمميه أن يتخيل المكفوفون الأعداد، وهذا في حد ذاته جيد، المشكلة تتمثل في أن بعض مدرسي التربية الخاصة استخدموه في تعليمنا الحسابَ عن طريق القهر والضرب والعسف، ويا حبذا لو ابتلاك الله بمدرس من حاملي العقد النفسية ليوسعك ضربًا على يديك الصغيرتين حتى تحفظَ الحسابَ حِفْظًا، فتكره المدرس والحساب والعداد واليوم النحس الذي دخلت فيه المدرسة.

وللعداد قواعدَ أخرى لا يفهمها إلا من استعمله من المكافيف أمثالي، تلك القواعدُ أكثرَ تعقيدًا من الحساب نفسه، يكفيك فقط حفظها حتى تتولد لديك كراهية علم الحساب مع ما فيه من فائدة، تلك القواعد لا تصلح إلا له وفي حدوده وداخل نطاقه فقط،، لأنها ببساطة قائمة على طريقة حساب المسائل باستخدام عواميده المعدنية التي نُظِمَتْ فيها الخرزات كما شرحت آنفًا.

وإليكم بعض تلك القواعد الجميلة التي كان صَعْبًا علَيَّ حِفْظُها فضلًا عن تطبيقها.. تنقسم القواعد إلى قسمين: قواعد الجمع وقواعد الطرح..

ولكل عدد حسابي قاعدتان للجمع ومثلهما للطرح، نستنتج من ذلك أن العدد الواحد له أربع قواعد إلا العدد 5 الذي كان له قاعدةٌ واحدةٌ للجمع وأخرى للطرح، وقواعد الجمع والطرح تحوي جميع الأعداد حتى العدد 12.

قاعدة العدد 1 الأولى تقول: ضع 5 احذف 4.. قاعدته الثانية تقول: ضع واحد يسار، احذف 9

العدد 2 له قاعدتان أيضًا، ضع 5 احذف 3.. ضع واحد يسار احذف 8

قاعدتا العدد 3، ضع 5 احذف 2.. ضع 1 يسار احذف 7

وهكذا قواعد الجمع والطرح في العداد الحسابي التي ذكرت لكم بعضها مما جادت به علَيَّ الذاكرة    ، وأذكر أنني عندما دخلت مدرسة النور بالزيتون في السنة الثانية الابتدائية سمعت التلاميذ ينطقونها بعكس ما كنت أحفظها في السابق فيقولون:

احذف 4 ضع 5 بدلًا من ضع 5 احذف 4 وهكذا حتى أحسستُ أنني في مياه البطيخ.

فأنت عندما تَحُلَّ مسألةً حسابية، في حيرةٍ من أمرك، هل تحلها بطريقة الحساب العادية أم بطريقة حضرة السيد عداد؟ ويا حبذا لو كانت المسألة الحسابية من نوعية 74174+25825 فإنك تصاب بالشلل الدماغي، فضلًا عن الضرب والقسمة وحساب الكسور. وإذا كانت المسألة الحسابية أكبر من عواميد العداد فإنك تشعر بالإحباط والاكتآب المزمن لأنك رأيت مسألة يعجز عن احتوائها عدادك، فكيف لعقلك الصغير أن يستوعبها فضلًا عن حَلِّها!!

وتؤدي كثرة استعمال العداد إلى نعومة الخرز وانسيابه في الحركة، حتى أنك من الممكن أن تحركه بيمناك حركة خفيفة فتؤدي إلى نزول بعض الخرز أو كله، ليست هذه ميزة يا عزيزي، بل هي عيبٌ خطير، يشكل لك عائقًا في الوصول إلى حل المسألة الصحيح يضاف إلى جملة العوائق التي ذكرتها لك آنِفًا، فإذا كنت بصدد مسألة حسابية وتشك في أمر إحدى الخرزات، فقد ترى نفسك بسببها في عنبر الخَطِرين في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية لأنك ستكون وقتها مصابًا بالبرانويا.

نأتي إلى سعره، فإنني أذكر أن سعره وقتَ كنا صِغارًا كان 30 جنيها مصريا أو يزيد قليلًا، ولا أدري هل هذا اللعين موجود حتى الآن في مدارس النور أم لا، وإذا كان موجودًا فكم يبلغ سعره في ظل موجة الغلاء الفاحش المتفحش التي تضرب بسيفها أعناق الفقراء، يعني مسح عقول وخراب ديار في آنٍ واحد.

عزيزي، إذا شعرت بالملل مما أقول فإن هذا لا يساوي قدر أنملة مما كنا نشعر به أثناء حل مسائل الحساب على العداد.